موضوع رئيسي

القيود المفروضة على الحركة والتنقّل وديناميكيات سوق العمل في الضفة الغربية وقطاع غزة المُتضرِّرين من النزاع

03/31/2011


 تُقدّم هذه المقالةُ لمحةً عامةً عن دراسةٍ شاملة أجرتها دائرة التنمية الاجتماعية والاقتصادية بمنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا لدى البنك الدولي  ضمن إطار تقييمٍ لبرامج مكافحة الفقر في الضفة الغربية وقطاع غزة (تارا فِشواناث، قائد فريق مكافحة الفقر).

اذار31، 2011-  دخل اقتصاد الضفة الغربية وقطاع غزة في أزمة عميقة بعد اندلاع الانتفاضة الثانية في عام 2000. واندلع كذلك مراراً وتكراراً، على مدى الأحد عشر عاماً الماضية، نزاعٌ سياسي عنيف، وبخاصة في بداية الانتفاضة، وما تلاها مباشرةً من عواقب وتبعات، كما اندلع النزاع في قطاع غزة خلال الفترة من 2005 – 2007. وكانت وما تزال أيضاً قيودٌ شديدةٌ مفروضة على حركة وتنقل الفلسطينين والبضائع ("الإغلاقات")، وعلى إمكانية الوصول إلى الخدمات. وتأتي هذه الدراسة لإجراء تحليل اقتصادي جزئي لسوق العمل في الضفة الغربية وقطاع غزة خلال هذه الفترة، باستخدام مجموعات البيانات الصادرة عن مسح القوى العاملة الفلسطيني الربعي (الفصلي)، والتي جمعها الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني خلال الفترة من عام 1999 وحتى عام 2009. ومن الإسهامات الكُبرى لهذه الدراسة وصفُ وتحليلُ اتجاهات سوق العمل على ضوء الإغلاقات ونوبات اندلاع النزاع الكُبرى. ومن السّمات الفريدة لهذا التحليل المنظورُ ذو الأمد الأطول الذي يبحث فيما هو أبعد من الأثر الفوري للنزاع، بهدف استكشاف الآثار "الهيكلية" المستمرة بثبات.

 وقد شَهِدَ اقتصادُ الضفة الغربية وقطاع غزة، خلال العقد الماضي، بعضَ أعلى معدلات البطالة في العالم. فقد بلغت البطالة ذروتها عام 2002، فسجّلت نسبة 30%، وبقيت هذه النسبة أعلى من 20 في المئة في عام 2009. ومع ذلك، فإنّ هذه النّسب في حدّ ذاتها تصوّر المدى، الذي كان الفلسطينيون يفتقرون فيه إلى فرص العمل على نحو أقلّ مما هو عليه في واقع الحال: فقد ارتفعت نسب التشغيل للعمالة المحدودة بين أولئك الذين يشغلون الوظائف من 15 في المئة إلى ما يزيد عن 25 في المئة، خلال الفترة من 1998 إلى 2009.

وقد صاحب ذلك تراجع غير متناسب ومطَّرد في تشغيل الشباب وفي المشاركة الاقتصادية: إذ بلغت مشاركة القوى العاملة الشابة، في عام 2009، نسبة33 في المئة فقط. أما الفئة المستضعفة الأخرى، على وجه الخصوص، فكانت الفئة السكانية الأقلّ تعليماً، والتي شهدت وعاشت أشدّ مستويات التراجع في التشغيل بعد بداية الانتفاضة الثانية. ويُوحي تحليلنا للبيانات الزمنية لنفس الافراد بأنّ حالات الاستضعاف تلك مرتبطة بعاملين: التقليصُ الحادُّ لإمكانية وصول الفلسطينيين لأسواق العمل الإسرائيلي – التي كانت وما تزال من كبار أرباب العمل المُشغِّلين للعمال الفلسطينيين غير المهرة، والوظائف الحكومية "المستقرة" نسبياً، وهي فرصٌ إمكانيةُ الحصول عليها أقل من جانب الشباب والفئة الأقلُّ تعليماً.

إنّ الأثرَ العميقَ للنزاع ولنظام الإغلاق على سوق العمل لا يتجّلى بوضوح في معدلات البطالة فحسب: فثمة دليلٌ ضئيل على حدوث نمو مستدام في حصة الفرد من الناتج المحلي الإجمالي، إلى جانب وجود تراجع عالمي في القطاع الخاص. وكان اقتصادا الضفة الغربية وقطاع غزة قد شهدا تراجع الاهمية النسبية للصناعة لافتاً للأنظار، حيث انخفضت حصة التصنيع والأعمال الإنشائية في إجمالي تشغيل القوى العاملة من 37 في المئة في عام 1998 إلى 24 في المئة في عام 2009. واستجابة إلى ذلك ذلك، فقد ارتفعت حصة الحكومة في إجمالي تشغيل القوى العاملة من 17 في المئة إلى 26 في المئة في الفترة بين عام 1999 وعام 2009. وكان ذلك الارتفاع مدفوعاً، إلى حدٍّ كبير، بالنمو الذي حصل في قطاعات الصحة، والعمل الاجتماعي، والتعليم والإدارة العامة، مما يوحي بحدوث توسّع في طاقة القطاع العام يقوده العون المقدّم من المانحين. ومن بواعث القلق الأخرى، المرافقة لهذا الاتجاه، أنّ الاستثمار في قطاعي التعليم والصحة سيكون له عوائد محدودة طالما بقي استثمار القطاع الخاص منخفضاً، وطالما كانت فرص التشغيل المُنتِج مُقيّدة.

وفي الواقع، فإنّ هناك دليلاً قوياً على حدوث انخفاض في الدخل المكتسب من العمل، مع انخفاض الأجور الحقيقية بما لا يقل عن نسبة تتراوح بين 10-30 في المئة، يتوقّف على المستوى التعليمي للأيدي العاملة. وقد كان هذا التراجع في مستوى الأجور شديداً، على وجه الخصوص، في أوساط الفئات السكانية الأقل تعليماً. ومن المحتمل أن يكون الانخفاض راجعاً إلى فقدان الوظائف التي تتطلّب مهارةً متدنية في إسرائيل – وهي وظائف تنطوي على الاجور الاعلى وإلى الصدمة المترتبة على جانب العرض من القوى العاملة عندما انقطع الفلسطينيون عن العمل في إسرائيل وعادوا إلى ديارهم. وربما كان ولا يزالُ للإغلاقات المستمرة بعناد أثرٌ طويل الأمد على الدَّخل المكتسب في سوق العمل بالضفة الغربية وقطاع غزة: فمستوى الأجور التي كان حملة الشهادة الثانوية العامة أو الأقل تعليماً منهم يتقاضونها خلال الفترة من 2003 إلى 2009 لم يَعُدْ إلى سابق عهده. وثمة اتجاهٌ آخرَ يبعث على القلق، مع أنه لا يثير الدهشة، يتمثّل في الانخفاض النسبي لأجور القطاع الخاص.

وهناك كذلك فروقات ملحوظة في النوع الاجتماعي (بين الجنسين) في سوق العمل في الضفة الغربية وقطاع غزة. فالنساء في فلسطين يخضعن للقيود ليس للأعراف الاجتماعية والثقافية ذاتها التي تواجهها النساء الأخريات في المنطقة فحسب، بل يخضعن أيضاً لمجموعةً من الهموم وبواعث القلق الإضافية التي تتمثّل في السلامة، والقدرة على الحركة والتّنقل، والندرة الشديدة في توافر فرص العمل. وعلى الرغم من كونها إحدى أقل نسب المشاركة النسائية في القوى العاملة، وهي تقلّ عن 16%، إلا أنّ كلاً من مشاركة المرأة في القوى العاملة، والبطالة في صفوف الإناث قد ارتفعا منذ عام 2003، مما يوحي بأنّ انتشار البطالة في صفوف الذكور يدفع المرأة إلى العمل. ومما يُثيرُ دواعي القلق، أنّ النساء الأقل تعليماً يُبْلِغْنَ، بصورة متزايدة، بأنّهنّ يعملنَ ضمن الأُسرة بصفة "أفراد غير مدفوعي الأجر"، في حين أنّ النساء اللواتي يتلقّين تعليماً جيداً، أصبح عملهنّ محصوراً، بصورة مطّردة، في وظائف حكومية.

ومن الأبعاد الرئيسة للنزاع التّدهورُ الحادُّ في الظروف التي يعيشها قطاع غزة منذ عام 2005. فقد عُزِلَ هذا القطاع وما يزال معزولاً عن بقية دول العالم: إذ لا يعمل خارج القطاع أيٌّ من الغزيين تقريباً. وبالمقارنة مع الضفة الغربية، فقد كان أداءُ القطاع سيئاً بصورة لافتة للنظر قياساً على جميع أبعاد سوق العمل القابلة للقياس، مع ما يُرافق ذلك من ارتفاع معدلات البطالة في القطاع عمّا هي عليه في الضفة، وانخفاض معدلات المشاركة في القوى العاملة وفي مستويات الأجور وفي تَوافر فرص العمل لدى القطاع الخاص في قطاع غزة عمّا هي عليه في الضفة، وارتفاع معدلات الإحباط في سوق العمل في القطاع عما هي عليه في الضفة.

ومع أنّ أثرَ الإغلاقات الخارجية يَتّضحُ بجلاء في الفقدان الحادّ لفرص التشغيل في صفوف الأيدي العاملة غير الماهرة مِمّن يعملون في إسرائيل، وفي التباعد الملحوظ بين مستوى الاقتصاد في الضفة الغربية ومستواه في قطاع غزة، إلا أنّ فهم الآليات التي من خلالها تؤثّر الإغلاقات الداخلية في النشاط الاقتصادي أمرٌ أكثر صعوبةً. ويجد هذا التّحليل دليلاً ضئيلاً على أنّ التباينات في شدّة الإغلاق ترتبط بالتباينات في مؤشرات سوق العمل، مثل التشغيل دون المستوى المطلوب. ومن التفسيرات المحتملة لضآلة هذا الارتباط المُحدّداتُ المفروضةُ على البيانات – فالحاجة تقتضي توفير المزيد من المعلومات عن أنماط / نماذج الأيدي العاملة التي تنتقل يومياً (ذهاباً إلى العمل وعودةً منه)، وعن سلوك تسلسل العرض لدى الشركات، وعن القيود المرتبطة بالمناخ الاستثماري. وثمّة تفسيرٌ آخرَ يفيد بأنّ الفلسطينيين ربما يكونون قد تكيّفوا مع نظام للإغلاق مزمن، ولكن لا يُمكن التّنبؤ به، لكي يحموا بذلك أنفسهم نسبياً من التغييرات المؤقتة في شدة الإغلاق. فعلى سبيل المثال، يوجد دليلٌ تتناقله الألسن (غير موثّق) يفيد بأن العاملين يصنعون ترتيبات تهدف إلى بقائهم قريبين من مكان العمل خلال ساعات أو أيام العمل الأسبوعية.

وربما يُفسَّر التّراجع في مستوى التصنيع في القطاع الخاص، وازدياد مستوى الاعتماد على الوظائف الحكومية، بأنّه من "حالات التكيُّف" مع الحواجز التي تواجه قدرة العاملين على الحركة والتنقل، هذا على مستوىً عام. وعلى مستوىً أكثر تحديداً، فإنّ تحليلَنا هذا يُلمح إلى وجود فروقات منهجية بين العاملين وفرص العمل من حيث مستوى الضعف والتعرّض للمخاطر في وجه الإغلاقات. فعلى سبيل المثال، تُوجدُ بعضُ الأدلة على أنّ الإغلاقات الداخلية تؤدي إلى فوات بعض أيام العمل على العاملين: فبالمقارنة مع العاملين الذين يعملون ضمن محافظاتهم، فإنّ العاملين من خارجها من المحتمل، إلى حدٍّ كبير، أن يغيبوا عن العمل عدداً من الأيام، عندما يكون مستوى الإغلاقات مرتفعاً. ومع ذلك، فمن المحتمل أيضاً، بدرجةٍ أقل، أن يقلّ مستوى التشغيل في صفوفهم عن المستوى المطلوب. ومن التفسيرات المحتملة لذلك أنّ أولئك الذين يعملون عن بعد من داخل بيوتهم، يعملون بهذه الطريقة لأنّهم وجدوا فُرصَ عمل أقلُّ "عرضةً للخطر" وأكثر استقراراً (من فرص العمل التي تقتضي الحركة والتنقل)، وذلك حينما يتوافر حجمٌ من العمل كافياً في أيام أخرى للتعويض عن أيام العمل التي تفوتهم. وبالتالي، فإن تأثير الإغلاقات الداخلية ربما لا يعتمد على بُعد المسافة عن العمل فحسب، بل إنه يعتمد أيضاً على عوامل أخرى، مثل الخصائص الوظيفية أو الصناعية التي لا ترصدها الدراسات المسحية في الوقت الراهن. وهذا يوحي كذلك بأن حركة البضاعة وانتقالها كان وما يزال أقل تكيّفاً ومرونة في التعامل مع الإغلاقات من حركة الأيدي العاملة وتنقلها.

وفي نهاية المطاف، فإنّ نموّ القطاع الخاص وتطوره يجب أن يقود كلاً من توفير فرص التّشغيل المُستدام ونموّ الأجور في الضفة الغربية وقطاع غزة. ومع أنّ القيود السياسية الراهنة تحدُّ بشدّة من توافر فرص النمو الفورية، إلا أنّ السياسات يجب أن تركّز على دعم القطاعات، المهيأة بأفضل وضع ممكن في الاقتصاد، لخلق فرص العمل والتشغيل في هذه البيئة المحصورة، مع ضرورة الاستمرار في الاستثمار في تطوير المهارات وفي رأس المال البشري. وبالفعل، فإنّ ظروف سوق العمل المُشَوّهة، التي تسود الضفة الغربية وقطاع غزة تستلزم وضع حُزمةٍ من السياسات المدروسة جيداً لدعم الاقتصاد الفلسطيني عندما تنقضي حالة الغموض السياسي، وتُرفع الحواجز المفروضة على الحركة والتّنقّل.

Api
Api

أهلا بك