صباح الخير. أشكرك، جون، على هذا التقديم الرقيق. وأشكركم جميعا على حضوركم، أو متابعتكم بثنا على شبكة الإنترنت. وأشكر مركز الدراسات الإستراتيجية والدولية على استضافتنا في مبناكم الجميل. وقبل أن أبدأ كلمتي، أود أن أتوقف برهة لنتذكر 147 طالباً في جامعة جاريسا في كينيا الذين قتلوا عبثاً قبل بضعة أيام. إن المدارس أماكن مُقدَّسة، ويجب أن يكون كل من يدرسون فيها آمنين. دعونا نقف لحظة لنتأمَّل واقعنا.
فبعد مضي 15 عاما من الألفية الجديدة، تمر التنمية الاقتصادية في البلدان الفقيرة والبلدان ذات الاقتصادات الصاعدة بمفترق طرق عصيب. وقد تركَّز الكثير من الاهتمام على الأفق القريب – بواعث القلق المتعلقة ببطء نمو الاقتصاد العالمي، وحالة عدم اليقين بشأن أسعار النفط، والصراعات من أوكرانيا إلى الشرق الأوسط إلى أجزاء من أفريقيا. ولكن حينما ننظر إلى صورة الوضع على المدى الأطول، نرى أن القرارات التي اتخذت هذا العام سيكون لها أثرٌ هائل على معيشة مليارات من الناس في أنحاء المعمورة لعدة أجيال قادمة.
وعام 2015 هو أهم عام للتنمية العالمية فيما تعيه الذاكرة حديثاً. ففي يوليو/تموز، سيتجمَّع قادة العالم في أديس أبابا لمناقشة كيف يمكننا تمويل أولوياتنا للتنمية في السنوات القادمة. وفي سبتمبر/أيلول، يلتقي قادة العالم في الأمم المتحدة لتحديد أهداف التنمية المستدامة، وهي مجموعة أهداف ومقاصد للفترة حتى العام 2030 . وفي ديسمبر/كانون الأول، يتجمَّع قادة العالم مرة أخرى في باريس لوضع اتفاق يقوم على التزامات الحكومات بخفض المخاطر الحادة لتغيُّر المناخ على الأجلين القصير والطويل.
وفي الوقت نفسه، شهدنا ظهور أطراف فاعلة جديدة في مجال التنمية – البنك الآسيوي للاستثمار في البنية التحتية الذي تقوده الصين، ويشارك في عضويته أكثر من 50 بلداً ومنطقة. ومن خلال المعايير الصحيحة المتصلة بالبيئة والعمل والمشتريات، يمكن أن يصبح البنك الآسيوي للاستثمار في البنية التحتية وبنك التنمية الجديد الذي أنشأته بلدان مجموعة بريكس (البرازيل وروسيا والهند والصين وجنوب أفريقيا) من القوى الفاعلة الجديدة القادرة على تحقيق آثار ملموسة في التنمية الاقتصادية للبلدان الفقيرة والبلدان ذات الأسواق الصاعدة. وترى مجموعة البنك الدولي في هذين البنكين الإنمائيين حليفين يتمتعان بإمكانيات قوية في التصدي للتحديات الهائلة التي ينطوي عليها توفير مرافق البنية التحتية التي تشتد الحاجة إليها في آسيا.
وتتحدَّد رسالتنا في مجموعة البنك الدولي وفقا لهدفين، وهما إنهاء الفقر المدقع بحلول عام 2030 وتعزيز الرخاء المشترك بين أفقر 40 في المائة من السكان في البلدان منخفضة الدخل والبلدان متوسطة الدخل. وهما هدفان طموحان، يجب بذل مزيد من الجهد لبلوغهما. وبحلول عام 2030، سنحتاج على الأرجح إلى زيادة إنتاج الطاقة 40 في المائة وسنواجه نقصا في إمدادات المياه نسبته 40 في المائة، وهي ضغوط قد تتسارع وتيرتها من جراء تغيُّر المناخ. وتشير تقديراتنا إلى أن العالم يحتاج إلى استثمار ما بين تريليون دولار و 1.5 تريليون دولار إضافية كل عام في مرافق البنية التحتية – الطرق والجسور والسكك الحديدية والمطارات ومحطات الطاقة ومحطات تحلية المياه.
وإذا استطاعت البنوك متعددة الأطراف في العالم، ومنها البنوك الجديدة، تكوين تحالفات، والعمل معاً، ومساندة برامج تنمية تتصدى لهذه التحديات، فسوف يعود ذلك بالنفع علينا جميعاً، ولاسيما الفقراء والفئات الأشد حرماناً وضعفاً. والأمل الذي يحدونا، بل ما نتوقعه حقاً، هو أن تنضم هذه المؤسسات الجديدة إلى بنوك التنمية متعددة الأطراف في العالم وشركائنا في القطاع الخاص في أداء رسالة مشتركة هي تعزيز النمو الاقتصادي بما يعود بالنفع على أشد سكان العالم فقراً. وسنفعل ما في وسعنا لإيجاد سبل مبتكرة جديدة للعمل مع هذه البنوك. وفي الأسبوع القادم، أثناء اجتماعات الربيع لمجموعة البنك الدولي وصندوق النقد الدولي هنا في واشنطن، أنوي مواصلة مناقشاتي مع المسؤولين الصينيين وآخرين بشأن هذه التحالفات المحتملة.
فطموحاتنا للتنمية الاقتصادية لا سقف يحدها. فلم نعد نتحدث عن مليارات الدولارات من أجل التنمية الاقتصادية. إنما نتحدث عن تريليونات الدولارات، وهو ما يقتضي منا إيجاد سبل مبتكرة واستخدام كل ما لدينا من موارد لحشد استثمارات القطاع الخاص التي تشتد الحاجة إليها لبناء مرافق البنية التحتية وخلق فرص العمل والوظائف.
والقرارات التي نتخذها هذا العام والتحالفات التي نُقيمها في السنوات القادمة ستساعد في تحديد ما إذا كانت لدينا فرصة لتحقيق هدف إنهاء الفقر المدقع في غضون 15 عاماً.
والنبأ السار هو أن العالم حقق بالفعل تقدماً كبيراً. ففي عام 1990، حينما كان عدد سكان العالم 5.2 مليار نسمة، كان 36 في المائة من السكان يعيشون في فقر مدقع. واليوم بعد أن وصل تعداد سكان العالم إلى 7.3 مليار نسمة، فإن هذه النسبة تقدر بحوالي 12 في المائة. وعلى مدى خمسة وعشرين عاماً انخفض عدد الفقراء المدقعين من قرابة ملياري نسمة إلى أقل من مليار.
ولكن لا يزال قرابة مليار نسمة يعيشون على أقل من 1.25 دولار للفرد في اليوم. ولا أحد منَّا تقريباً يمكنه تخيُّل صورة هذا الوضع. فلنتذكَّر ما هو الفقر. الفقر يعني أن هناك 2.5 مليار نسمة لا يحصلون على خدمات مالية مثل امتلاك حسابات مصرفية؛ وأن هناك 1.4 مليار نسمة يعيشون بدون كهرباء؛ وأن أطفالك أيضا يذهبون إلى فراش النوم وهم جوعى على بطون خاوية؛ ولا يمكنهم الذهاب إلى المدرسة لأن كل فرد في الأسرة يتعين عليه أن يكسب بضعة سنتات كل يوم.
ويقول البعض إنه يستحيل إنهاء الفقر المدقع، ولاسيما في 15 عاما فحسب. ولكننا نعلم أنه ممكن. ونعلم ذلك لأسباب منها نجاحنا فيما مضى، ولأننا تعلَّمنا من سنوات الخبرة ما ينجح في سياقات معينة وما لا ينجح.
وفي وقت لاحق من العام، سأُجري محادثات مُتعمِّقة حول إستراتيجيتنا لتعزيز الرخاء لأفقر 40 في المائة من السكان، لاسيما في البلدان متوسطة الدخل. ولكني اليوم أُريد أن أتحدَّث عن إستراتيجيتنا العامة لانتشال نحو مليار نسمة من براثن الفقر المدقع إلى العالم الحديث.
لقد قمنا باستمرار بتحليل خبرتنا العالمية في مكافحة الفقر على مدى الخمسين عاماً الماضية واستخلاص الدروس منها داخل البنك الدولي. ولذلك، فإن مشورتنا للحكومات تطوَّرت بمرور الوقت. ونعلم الآن أن مشورتنا الإستراتيجية يجب أن تشهد مزيداً من التطوير. ويمكن تلخيص إستراتيجيتنا لمكافحة الفقر استناداً إلى أفضل خبراتنا العالمية المتاحة الآن في ثلاث كلمات: وهي
النمو والاستثمار والتأمين.
دعوني أتحدَّث عن كل واحدة منها.
أولاً النمو.
فالاقتصاد العالمي يجب أن ينمو بخطى أسرع، وأن ينمو على نحو أكثر استدامةً من ذي قبل. ويجب أن ينمو بطريقة تكفل أن يحصل الفقراء على نصيب أكبر من ثمار ذلك النمو. ولا يمكننا بلوغ نهاية الفقر المدقع إلا إذا رسمنا طريقاً نحو نمو أكثر فاعليةً وشمولاً ليس له نظير في العصر الحديث.
وقد علَّمتنا عقود من الخبرة أن النمو الاقتصادي هو المُحرِّك الرئيسي لزيادة دخل الفرد والحد من الفقر. ويتطلَّب تحقيق نمو متواصل استقراراً على صعيد الاقتصاد الكلي يتمثَّل في صورة تضخم منخفض ومستويات مديونية يُمكِن تدبُّرها وأسعار صرف موثوقة. ويجب أيضا أن تُحدِّد السياسات الحكومية أولويات النمو في القطاعات التي تساعد على زيادة دخول الفقراء.
وسوف تستمر مجموعة البنك الدولي في مساندة الحكومات والقيام باستثمارات في مجموعة واسعة ومتنوعة من المجالات لمكافحة الفقر المدقع. وعلى سبيل المثال، في البلدان التي تتمتَّع بثروات معدنية كبيرة، تستطيع الحكومات تشجيع النمو الموجَّه لصالح الفقراء من خلال تحسين نُظُم التعليم وخلق اقتصادات أكثر تنوُّعاً. ولكن في معظم البلدان النامية تتطلَّب جهود إنهاء الفقر المدقع منَّا التركيز على زيادة الإنتاجية الزراعية.
وعلى الرغم من الهجرة الواسعة في العالم إلى المناطق الحضرية، فإن 70 في المائة من الفقراء المدقعين في العالم ما زالوا يعيشون في قرى ريفية. وهم في معظمهم مزارعون، أو يعملون في وظائف غير رسمية – في تقديم خدمات إلى سكان المناطق الريفية. وتُظهِر خبرتنا في الصين أنه في البلدان الأفقر تبلغ مساهمة نمو القطاع الزراعي في انتشال الناس من براثن الفقر أربعة أمثال نمو الصناعات التحويلية والخدمات.
ولكن كيف يمكن للبلدان أن تحذو حذو الصين؟ الأمر رهنٌ بالظروف المحلية. ففي بعض الأحيان، يكون الأمر مجرد إعطاء المزارعين مزيداً من التحكُّم في الطريقة التي ينتجون بها وما ينتجونه. وهذا ما فعلته فييتنام أثناء عملية "التحديث" الاقتصادي Doi Moi في أواخر ثمانينيات القرن الماضي. وخلال العقود الثلاثة التالية أصبحت فييتنام مُصدِّراً رئيسيا للأرز والبن والشاي وهبط معدل الفقر فيها من 57 في المائة إلى 5 في المائة.
إن مساعدة المزارعين على تحسين غلة المحاصيل يتطلَّب تيسير الحصول على بذور مُحسَّنة والمياه والكهرباء والوصول إلى الأسواق. وتُظهِر دراسة في بنغلاديش أنه بعد ستة أعوام من مد 3000 كيلومتر من الطرق لربط المجتمعات المحلية بالأسواق، زادت دخول العائلات 74 في المائة في المتوسط.
ويتوقف تعزيز النمو في قطاع الزراعة في جانب منه أيضاً على سلامة النظام الغذائي العالمي. وفي اجتماعات الربيع الأسبوع القادم، سنُصدِر ورقة مناقشة جديدة بهدف خلق نظام غذائي قوي، نظام قادر على تعزيز دخول أشد الناس فقرا، وتوفير التغذية الكافية، ومكافحة تغيُّر المناخ.
وذلك هو الجزء الخاص بالنمو من الإستراتيجية. ويتمثل الجزء الثاني للإستراتيجية في الاستثمار، وأعني بهذا الاستثمار في البشر، ولاسيما من خلال التعليم والرعاية الصحية.
ففرصة الانطلاق بالأطفال نحو البداية الصحيحة لا تأتي إلا مرة واحدة. والاستثمارات في الأطفال في بداية حياتهم تعود بمنافع أكبر كثيراً من الاستثمارات التي تتم فيما بعد. وسوء التغذية والأمراض قد تكون لها آثار مدى الحياة على الصحة العقلية والبدنية والتحصيل التعليمي، والدخل بالنسبة للفرد البالغ. وفي المقابل، يكون لتوفير المياه النظيفة وخدمات الصرف الصحي في المنزل وفي المدرسة أيضا أثر كبير على فرص التطوير المهني في المستقبل. فهي تساعد الأطفال على تفادي الإصابة بالأمراض التي تسبب إعاقات النمو، وتكفل انتظام الفتيات في المدارس حتى بعد بدء الحيض.
والاستثمارات في الفتيات والنساء ذات أهمية كبيرة لأن لها أثراً مضاعفاً على رفاهة الفقراء المدقعين. فتمكين الأمهات من أسباب القوة عن طريق التعليم، يجعلهن مؤهلات لإنجاب أطفال أصحاء، وحينما تتاح لهن موارد مالية، فإنهن يستثمرن على الأرجح في الجيل التالي.
ويجب أيضا أن نضع معايير تعليمية واضحة في المدارس. فمستوى التعلُّم فيما بين الشبان اليوم في كثير من البلدان يبعث على القلق. وأكثر من 50 في المائة من الشبان في كينيا الذين قضوا ست سنوات من التعليم في المدارس لا يمكنهم قراءة جملة بسيطة. وما يزيد على 70 في المائة من الأطفال الذين أتموا التعليم الابتدائي في موزمبيق لا يلمون بمهارات الحساب الأساسية. ولهذه المستويات المتدنية من التحصيل آثار مدمرة حينما يبحث الناس عن فرص العمل.
ونحن نعلم أن استخدام التكنولوجيا الجديدة قد يساعد على إحداث تحوُّل جوهري في نواتج العملية التعليمية. وعلى سبيل المثال، تستخدم أكاديميات بريدج الدولية البرمجيات والحواسيب اللوحية في مدارسها التي تقوم بتعليم ما يربو على 100 ألف طالب في كينيا وأوغندا. وبعد مرور نحو عامين، تحسَّن متوسط درجات الطلاب في القراءة ومبادئ الحساب وتفوقوا على نظرائهم في المدارس العامة. وتبلغ التكلفة للطالب الواحد في أكاديميات بريدج ستة دولارات فحسب شهرياً.
وإحدى أكثر السبل فاعلية للتشجيع على الاستثمار في الفقراء المدقعين وتحسين تقديم خدمات الرعاية الصحية والتعليم هي إيجاد آليات للمساءلة. ووجدت دراسة في تنزانيا أن الأطباء في العيادات العامة يقضون في المتوسط 29 دقيقة فحسب في أي يوم لفحص المرضى. وأظهرت بحوث أخرى في الهند أن مُدرِّسي المدارس الابتدائية في المدارس الحكومية يتغيبون بنسبة 25 في المائة من وقت الدوام المُحدَّد لهم، وأن أطباء الرعاية الأولية يتغيبون بنسبة 40 في المائة من الدوام المُحدَّد لهم. وبوسع الحكومات مساعدة الفقراء في مراقبة مُقدّمي الخدمات ومحاسبتهم عن هذا التقصير، ويمكنها أيضا خلق الحوافز للموظفين العموميين لتحسين أدائهم. والحكومات التي تفعل ذلك ستجني عوائد أكبر كثيراً على استثماراتها في رأس المال البشري.
أما الجزء الأخير للإستراتيجية فهو التأمين. ويعني هذا أنه يجب على الحكومات توفير شبكات للأمان الاجتماعي وبناء نظم لحماية الناس من الكوارث والانتشار السريع للأمراض.
وتحمي النظم الوطنية للمساعدات والتأمينات الاجتماعية من النكسات مثل المرض والبطالة، وقد تعزز النمو وتنمية رأس المال البشري. وعلى سبيل المثال، قد تكون لبرامج التحويلات النقدية آثار ملموسة وفاعلة بالنسبة لتكاليفها، فبرنامج منح الأسرة Bolsa Familia في البرازيل ساعد على خفض معدل الفقر المدقع بنسبة 28 في المائة في عشر سنوات، مقابل تكلفة لم تتعد 0.5 في المائة من إجمالي الناتج المحلي. وعلى الرغم من نجاحات كهذه، ما زال 870 مليون نسمة يعيشون في فقر ولا يحصلون على أي نوع من المساعدات الاجتماعية.
وثمة عنصر حيوي آخر للتأمين هو حماية الناس من مخاطر الكوارث. وتشتمل الأمثلة على ذلك على نظم الرعاية الصحية الشاملة، وتقديم خدمات أعلى جودة للرعاية الصحية، وإدارة مخاطر الكوارث، وأدوات تمويل مثل سندات الكوارث وترتيبات السحب عند الحاجة. وقد يبدو هذا أمراً شكلياُ، لكن ما يُسمَّى سندات الكوارث ذات فاعلية كبيرة. فهي تتيح التمويل على الفور للبلدان التي تتعرض لكوارث طبيعية.
وينبغي استخدام نُهُج مماثلة للحماية من الأوبئة. وقد كشف انتشار مرض الإيبولا عن أوجه النقص والقصور في النظم الدولية والوطنية للوقاية من تفشي الأمراض المعدية ورصدها ومواجهتها. وعلَّمنا الإيبولا أيضاً أن الفقراء من المرجح أن يكونوا أكثر الناس تضرراً من الأوبئة.
وتدرس مجموعة البنك الدولي مع شركائها مفهوماً جديداً يتضمَّن توفير تمويل الاستجابة السريعة الذي تشتد الحاجة إليه في مواجهة تفشي مرض من الأمراض. والغرض من إنشاء برنامج تمويل طارئ لمواجهة الأوبئة هو تعبئة موارد القطاعين العام والخاص من خلال التمويل العام، وآليات السوق والتأمين الخاصة. وفي حالة تفشي مرض من الأمراض، تتلقى البلدان المنكوبة دفعات سريعة من التمويل التي تساعد على احتواء التفشي وإنقاذ الأرواح وحماية الاقتصادات.
ولا توجد خطة واحدة يمكن للبلدان الاعتماد عليها في جهودها لإنهاء الفقر المدقع. لكن إستراتيجيتنا تشير إلى الأولويات التي يجب مراعاتها في المستقبل. أولاً، يجب أن تزيد الإنتاجية الزراعية. وثانياً، يجب أن نبني مرافق للبنية التحتية تتيح الوصول إلى الطاقة والري والأسواق. وثالثاً، يجب أن نُشجِّع على زيادة حرية التجارة، التي تتيح إمكانيات أكبر للوصول إلى الأسواق للفقراء، وتُمكِّن رواد الأعمال في البلدان منخفضة الدخل والبلدان متوسطة الدخل من تنمية منشآتهم وخلق وظائف وفرص عمل جديدة. ورابعاً، يجب أن نستثمر في الصحة والتعليم ولاسيما للنساء والأطفال. وأخيراً، يجب أن ننشئ شبكات للأمان الاجتماعي، ونوفر الضمان الاجتماعي، بما في ذلك المبادرات التي تحمي من آثار الكوارث الطبيعية والأوبئة.
وقد بدأت مجموعة البنك الدولي قبل تسعة أشهر واحدة من أكثر عمليات إعادة التنظيم طموحاً في تاريخها. وكنا نعلم أننا في حاجة إلى إعادة هيكلة مؤسستنا من أجل تلبية الاحتياجات المستجدة للبلدان منخفضة الدخل والبلدان متوسطة الدخل. وفي عالم أصبح فيه الحصول على رأس المال ميسوراً أكثر من ذي قبل، كان علينا التأكيد على أهم مواطن قوتنا –وهي التزاوج بين معرفتنا الواسعة والتمويل المبتكر لتقديم برامج تحقق أعظم الآثار لأشد الناس فقراً. وتعمل إداراتنا الجديدة للممارسات العالمية والحلول الشاملة ووحداتنا الإقليمية بشكل وثيق مع الحكومات لوضع برامج للحد من الفقر تلائم أوضاع كل منها. وتستند هذه البرامج إلى تحليلات لمجموعة واسعة من العوامل المحلية، منها الخصائص السكانية للفقراء المدقعين وأماكنهم. وهدفنا هو مساعدة البلدان على ترجمة الخبرات العالمية إلى خبرة عملية تكفل حل أشد المشكلات صعوبة.
ونعلم أن إنهاء الفقر المدقع سيكون أمراً بالغ الصعوبة، بل إننا كلما اقتربنا من بلوغ هدفنا زادت صعوبته. وستكون أكثر حالات الفقر دواما واستحكاماً في البيئات الهشة. ونتوقع في غضون خمسة أعوام، أن أكثر من نصف الفقراء المدقعين في العالم سيعيشون في بلدان متأثرة بالصراعات. والصراع، كما نعلم، قد تكون له آثار مُدمِّرة على جهودنا لمكافحة الفقر.
والفقر نفسه قد يخلق أيضا بيئة خصبة للصراع. فعلى سبيل المثال، حيثما يشعر الناس بالإقصاء عن ثمار التقدم، بسبب البطالة أو التمييز في المعاملة أو الفساد، فإنهم قد يثورون ويحملون السلاح. لقد جعلت هذه العوامل من الميسور على المتطرفين في منطقتي الشرق الأوسط وأفريقيا تجنيد من يناصر قضيتهم. ويُدمِّر انتشار أعمال العنف المباني والجسور والمدارس والمستشفيات، والأهم من ذلك، أرواح البشر. ويؤدي هذا الدمار قطعاً إلى استشراء الفقر.
ويُمكننا كسر هذه الحلقة المفرغة وتعزيز الأمن إذا نفَّذنا سياسات وبرامج إنمائية تشجع على النمو وتستثمر في رأس المال البشري وتؤمِّن الناس من مخاطر السقوط في براثن الفقر. ومن الضروري أيضا اتخاذ مبادرات لتقوية المؤسسات. ويجب أن تكون الحكومات أكثر خضوعاً للمساءلة أمام المواطنين وتعمل للحد من المعاملة التعسفية على أيدي قوات الأمن وطلب الرشاوي من الفقراء. فهذا يساعد على تقليص احتمالات وقوع صراعات عنيفة وعلى إزالة أحد مُحرِّكات الفقر وأسبابه.
وحينما يوجد الصراع، فإن الحقيقة المؤلمة هي أن خفض معدلات الفقر يصبح أمراً بالغ الصعوبة.
وحينما يتوقف القتال، يصبح ممكناً تحقيق تقدُّم.
وعلى مدى العامين الماضيين، قمت بثلاث رحلات مع الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون إلى أفريقيا - إلى منطقة البحيرات العظمى ومنطقة الساحل ومنطقة القرن الأفريقي. كان هدفنا اغتنام هذه الفرص التي تسنح حينما يتوقف القتال. وفي هذه المناطق الثلاث، نعمل مع الشركاء من أجل القيام في إطار تحرك جماعي بإرسال مليارات الدولارات لتعزيز التنمية الإقليمية. وقد اتخذنا خطوات لزيادة التعاون السياسي والاقتصادي الشامل الذي نأمل أن يجعل نشوب الصراع أقل احتمالاً، وقمنا أيضا بزيادة الاستثمارات التي ستعود بالنفع على الفقراء وأشد الناس ضعفاً وحرماناً، وهو ما يُضعِف أسباب الهشاشة وعواملها. وكان بين شركائنا الاتحاد الأوروبي والبنك الأفريقي للتنمية والاتحاد الأفريقي والبنك الإسلامي للتنمية. وسيتيح لنا هذا النوع من التعاون فرصة حقيقية لإنهاء الفقر المدقع.
ورغم ذلك، فإن الأمر لن يكون سهلا هيناً. فالتنمية لم تكن قط سهلة. لكننا نجد التشجيع في سجل أعمالنا على مدى الخمسة والعشرين عاما المنصرمة. لقد قلَّصنا معدل الفقر المدقع بمقدار الثلثين وأثبتنا أنه يمكن تحقيق مكاسب كبيرة من خلال إستراتيجية النمو والاستثمار والتأمين. وعلى طريق الكفاح نحو إنهاء الفقر المدقع، نجح الكثير من البلدان في الاضطلاع بمهمة بدت مستحيلة لكنهم جعلوها ممكنة. إن إنهاء الفقر المدقع لم يعد مجرد حلم. بل فرصة سانحة أمامنا.
ويجب على حكومات العالم أن تغتنم هذه اللحظة. وعلى شركائنا في القطاع الخاص أن يبذلوا المزيد من الجهد. ويجب على مجموعة البنك الدولي وشركائنا من بنوك التنمية متعددة الأطراف وشركائنا الجدد في الأفق أن يغتنموا جميعاً هذه اللحظة. وينبغي لنا الآن أن نتكاتف بإيمان حقيقي حتى يوصف جيلنا بأنه الجيل الذي حقق نهاية الفقر.
إننا الجيل الأول في تاريخ البشرية الذي يمكنه إنهاء الفقر المدقع. هذا هو التحدي الأكبر لنا وهي فرصة هائلة لنا. وسنسترشد بنصف قرن من الشواهد والممارسات. إنه إنجاز ممكن التحقيق وهو نصب أعيننا .. وأعتقد أنه سيكون أهم إنجازات البشرية وأعظمها. إن باستطاعتنا إنهاء الفقر المدقع. ويجب أن تبدأ الآن الدفعة الأخيرة نحو هذه الغاية.
شكراً جزيلاً لكم.