Skip to Main Navigation
رأي 12/17/2020

اجتياز أزمة كورونا: سبل مستدامة لتقوية قدرة القطاع الخاص في المغرب على الصمود في وجه التحديات

لقد خطا المغرب خطوات واسعة في السنوات الأخيرة في تجويد مناخ أعماله بشكل عام. وكان تطوير القطاع الخاص كمحرِّك رئيسي للنمو وخلق فرص الشغل في صدارة أولويات الحكومة. وأُنشئت اللجنة الوطنية لمناخ الأعمال لتطبيق إصلاحات ترمي إلى الارتقاء بمناخ الأعمال بالتنسيق مع الجهات الفاعلة في القطاع الخاص. وتلا ذلك إجراء إصلاحات ومبادرات مهمة لتحفيز نمو القطاع الخاص من أجل النهوض بالمنافسة، وتقليص الإجراءات البيروقراطية، وتعزيز منظومة الصناعات التحويلية.

لكن المغرب اليوم -شأنه شأن كثير من البلدان الأخرى في أنحاء العالم- يشهد تعثُّر زخم جهوده لإصلاح مناخ الأعمال من جراء تفشِّي جائحة فيروس كورونا (كوفيد-19). فمن الشركات الكبيرة (المقاولات الكبيرة) إلى مؤسسات الأعمال الأصغر حجما، بدأت منظومة مؤسسات الأعمال في المغرب تشعر بوطأة هبوط النشاط الاقتصادي العالمي والمحلي.

في مجموعة البنك الدولي، تُعد استقصاءات مؤسسات الأعمال في البلدان أداة فعالة لمتابعة إنتاجية القطاع الخاص وتقييمه. وقبيل ظهور جائحة كورونا، أجرت مجموعة البنك بالتعاون مع اللجنة الوطنية لمناخ الأعمال استقصاء مؤسسات الأعمال في المغرب في الفترة من مايو/أيار 2019 إلى يناير/كانون الثاني 2020، وذلك من خلال مقابلات مع مديري 1096 من شركات القطاع الرسمي في أنحاء المملكة على أساس عينة تمثيلية قدمتها اللجنة والمندوبية السامية للتخطيط في المغرب. ومع تفشِّي الجائحة، أُجرِي استقصاء للمتابعة بين يوليوز/تموز  وغشت/آب 2020 لتقييم الآثار الأولية للأزمة. ومن المهم في البداية التأكيد على أن الاستقصاء لا يشمل 4.3 ملايين أسرة يعتمدون على العمل في القطاع غير الرسمي - سواء العمل الحر أو العمل بأجر في شركات القطاع غير الرسمي.

وتُبيِّن نتائج الاستقصاء آثار الأزمة التي بدأت تتكشَّف. فقد أضرت التداعيات المحلية والعالمية للأزمة مجتمعةً بشدة بأداء الشركات والسيولة المتاحة لها وملاءتها المالية، حيث خرج من السوق إلى الآن ما لا يقل عن 6% من الشركات. كما أن مؤسسات الأعمال التي نجت من موجة الإغلاقات ليست بمنأى عن التحديات الراهنة المتعلقة بالسوق، وتلحق أجواء عدم التيقن والشكوك المتفشِّية الضرر بالاستثمار بشدة. فقد كشفت 82% من الشركات عن تراجع الطلب على منتجاتها وخدماتها، وخسرت الشركات المغربية نحو نصف (47%) مبيعاتها خلال الجائحة. وكانت مؤسسات الأعمال الصغيرة الأقل قدرة على الصمود في وجه الصدمات، إذ فقدت 50% من مبيعاتها. وبالمقارنة، فقدت الشركات الأردنية والإيطالية 51% و47% على الترتيب.

وأدَّى تراجع عمليات الشركات إلى تقليص أعداد العمالة: أعلنت 50% من الشركات المغربية تخفيض إجمالي ساعات العمل الأسبوعية، وقلَّصت 14% منها العدد الإجمالي للعمال الدائمين. وأسفر ذلك في المتوسط عن تقليص عدد العمال الدائمين بنسبة 4%. وبالمقارنة، قلص الأردن وإيطاليا عدد العمال الدائمين بنسبة 19% و3% على الترتيب.

وإجمالا، جاءت نتائج استقصاء مؤسسات الأعمال مُكمِّلةً على نحو متسق وفي الوقت المناسب لأحدث استبيان أجرته مندوبية التخطيط الذي أظهرت تقديراته أن 57% من الشركات اضطرت كليا أو جزئيا لتعليق أنشطتها في أبريل/نيسان 2020، وأن الاقتصاد فقد 726 ألف فرصة شغل (نحو 20% من إجمالي فرص الشغل الرسمية)، معظمها في الشركات الصغرى والصغيرة والمتوسطة. علاوةً على ذلك، فإنه على أساس مقارنة البيانات المأخوذة من استقصاء مؤسسات الأعمال في عينة من البلدان المتقدمة والنامية، تبيَّن أن الشركات المغربية الرسمية يمكن أن تقوم بعمل أفضل مقارنة بشركات من بلدان مثل اليونان أو البرتغال أو تركيا من حيث معدلات البقاء في ظل اضطراب التدفقات النقدية (تُقدَّر فترة البقاء بنحو 9 أسابيع).

ومنذ تفشِّي الجائحة، كانت الحكومة المغربية سبَّاقة في استخدام حزمة من المساعدات لدعم استمرار الحصول على الائتمان للشركات الصغيرة والمتوسطة الحجم. وأحدثت الحكومة صندوقا طارئا خاصا لمواجهة تداعيات جائحة كورونا بلغت موارده 3.3 مليارات دولار لمساندة احتياجات الشركات من السيولة ورأس المال العامل. ودعما لمرحلة التعافي، تعكف الحكومة حاليا على إحداث صندوق استثمار إستراتيجي، هو صندوق محمد السادس للاستثمار، بهدف تمويل مشروعات البنية التحتية، وتكملة أدوات الدعم المالي للشركات، تلك الأدوات المُصمَّمة لتفادي موجات الإفلاس في أعقاب الأزمة. ويأتي الصندوق الجديد في إطار حزمة أوسع نطاقا من إجراءات دعم التعافي تشتمل أيضا على ضمانات للقروض المصرفية للشركات بقيمة إضافية قدرها 75 مليار دينار مغربي. ويضع حجم هذه الحزمة المغرب في مركز يفوق كثيرا المتوسط لبلدان الأسواق الصاعدة (الرسم البياني).

Image

التحديات الكامنة

بالإضافة إلى آثارها الفورية المباشرة، فقد كشفت الأزمة عن أوجه قصور هيكلية في تكوين القطاع الخاص في البلاد. وثمة تحد متنامٍ يتجلَّى في الفجوة الكبيرة في القدرة على المنافسة بين القطاعات الحديثة (السيارات وصناعة الطيران) والقطاعات ذات الإنتاجية المنخفضة أو المتراجعة (مثل الحرف اليدوية أو المنسوجات). ولا تزال الشركات المغربية قابعة في مصاف القطاعات ذات القيمة المضافة المنخفضة من سلسلة القيمة مثل قطاع شركات الكابلات. وفي الكثير من القطاعات، لا تزال الشركات تشهد استقطابا بين قلة من الجهات الفاعلة المهيمنة والراسخة في أوضاع احتكارية أو تتسم باحتكار القلة، وأغلبية من مؤسسات الأعمال الصغرى والصغيرة والمتوسطة ذات القدرات التنافسية الضعيفة والتي تؤلف نحو 93% من جميع الشركات (المندوبية السامية للتخطيط 2019).

وينطوي الحصول على الائتمان والاستدامة المالية على تحديات إضافية. فقد أظهر استقصاء 2019 أن 28% من الشركات المشاركة فيه تعتقد أن الحصول على التمويل مبعث قلق. وفي استقصاء المتابعة، تبيَّن أن 62% من الشركات (مقابل 50% في إيطاليا) عجزت عن الوفاء بالتزاماتها المالية، وسجلت الشركات الصغيرة أعلى معدلات التأخر في سداد المدفوعات المستحقة عليها.

وبدأت ريادة الأعمال والابتكار في الازدهار في المغرب، وهما الركيزتان الأساسيتان لدينامية القطاع الخاص. ومع ذلك، فإن الشركات حديثة العهد لا تزال تلقى صعوبة في الحصول على التمويل في مراحلها التأسيسية، وما زال المناخ العام لخدمات المساندة المالية والاستشارية مُعقَّدا. وقد يتيح تبسيط هذا الوضع لرواد الأعمال سبيلا مٌيسَّرا للانتقال من مرحلة التصور إلى مراحل تدبير التمويل والتشغيل. ولا تزال مؤهلات الأيدي العاملة -وهي عامل رئيسي لدينامية القطاع الخاص- مبعث قلق في المغرب بالمقارنة مع البلدان النظيرة (30% من الشركات المغربية ترى أن عدم التأهيل الكافي للأيدي العاملة يُعد إحدى العقبات الرئيسية أمام أعمالها مقابل 20% في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا) على الرغم من أن 38% من الشركات تقدم تدريبا رسميا منتظما لموظفيها.

وكشف استقصاء مؤسسات الأعمال لعام 2019 النقاب عن تحدٍ هيكلي يؤدي إلى زيادة تكاليف المعاملات للشركات المغربية، وهو الفساد. وترى 46% من الشركات أن الفساد يشكل إحدى العقبات الرئيسية، وقال 58% منها إنه كان متوقعا منها أن تقدم رشوة للفوز بعقد مع الحكومة. وتُشكِّل أوجه قصور اللوائح التنظيمية لأنشطة الأعمال أيضا عقبات في طريق نمو الشركات والتنمية في المغرب. وزادت نسبة الشركات المغربية التي ترى أن إجراءات الحصول على ترخيص مزاولة النشاط التجاري تشكل عقبة رئيسية إلى 30% في 2019 من 14% في 2013. علاوةً على ذلك، ترى أن 41% من الشركات المغربية أن معدلات الجباية والضريبة تشكل عقبةً رئيسية، ويرى 53% منها اللوائح التنظيمية للأيدي العاملة يُعد أحد المعوقات.

وأخيرا، ينبغي ألا ننسى أن القطاعات المرتبطة بالاقتصاد غير الرسمي تفوق بكثير من حيث الحجم القطاع الرسمي في المغرب: إذ تعتمد 4.3 ملايين أسرة في البلاد على الأنشطة غير الرسمية في مدخولها وكسب أرزاقها. وفي الوقت نفسه، يسهم نقص الدينامية والفرص في القطاع الرسمي بالقدر نفسه في استمرار هذه الظاهرة.

تفاؤل يدعو إلى تعزيز الإصلاحات

يتمتع القطاع الخاص المغربي بالقدرة على الاستفادة من زخم التغيير في الانطلاق والحفاظ على خصال الابتكار والمرونة التي تجلت في المراحل الأولى للجائحة، حيث استطاع عدد من مؤسسات الأعمال اتخاذ مواقع لها في القطاعات الإنتاجية المتصلة بالاستجابة للجائحة.

تشكل أزمة جائحة كورونا تحديا جسيما، لكنها مع ذلك تتيح فرصةً فريدةً للقطاع الخاص المغربي لإحداث تحول في نموذجه الإنتاجي وتعزيز قدرته على المنافسة. وتبرز في السياق الراهن بعض الفرص للمغرب للنهوض بمكانته.

سلاسل القيمة العالمية: سيتعيَّن بعد أزمة كورونا إعادة النظر في القيود الناجمة عن تزايد اتجاه "التجزؤ والتفتت" الذي شهدته فيما مضى سلاسل القيمة العالمية . وسيتطلب هذا أن تعيد الشركات متعددة الجنسيات النظر في أوضاعها وتعمل على توطين سلاسل القيمة التابعة لها لتخفيف آثار الصدمات في المستقبل. ويتيح هذا فرصة فريدة للقطاع الخاص المغربي للإندماج في  سلاسل القيمة العالمية ولجعل المغرب مركزا صناعيا مستداما ومراعيا للبيئة يربط بين أفريقيا وأوروبا.

التنافسية في السوق: إن النهوض بالتنافسية والقدرة على المنافسة في السوق بإصلاح أنظمة المشتريات العمومية ومراجعة التعريفات الجمركية تمثل خطوات حاسمة لتهيئة تكافؤ الفرص للشركات المحلية ذات الأداء الجيد لاسيما المؤسسات الصغرى والصغيرة والمتوسطة وتمكينها من النمو وخلق فرص الشغل.

رأس المال البشري: يُعد الاستثمار في قوة عاملة تتمتع بالمهارات عاملا حيويا لزيادة التنافسية، والحد من البطالة، وتحقيق زيادات في معدلات الإنتاجية تشتد الحاجة إليها لتحفيز نمو القطاع الخاص.

القدرة على الحصول على التمويل: يعتمد التمويل لمؤسسات الأعمال الصغرى والصغيرة والمتوسطة اعتمادا كبيرا على البنوك. واليوم يمكن الاستفادة من حلول الاستثمار المباشر وأسواق رأس المال في تمكين الشركات التي تتسم بحسن الأداء في تدبير رأس المال من مستثمري القطاع الخاص والمؤسسات، لاسيما في أعقاب الأزمة، حينما تعرض البنوك تسهيلات ائتمانية كبيرة على الشركات لتلبية احتياجاتها الملحة من السيولة.

دمج القطاع غير المهيكل في الاقتصاد: من الضروري تحقيق الدمج التدريجي للقطاع غير المهيكل في الاقتصاد من خلال تدابير تنشيط كافية في إطار المالية العامة، وتسهيل الحصول على التمويل وتيسير تكلفته. ومع ذلك، فإن تقليص الأنشطة غير الرسمية على نحو فعال سيتطلب اتباع نهج متعدد الجوانب، يتضمن إصلاحات هيكلية للقطاع الخاص، مثل تلك المذكورة آنفا، ولكن أيضا استثمارات عريضة وطويلة الأمد في رأس المال البشري بالبلاد. وفيما يتصل بالأجزاء الكبيرة من القطاع غير الرسمي، لاسيما الشركات الكثيرة التي تعتمد على فرص الشغل ذات الإنتاجية المنخفضة التي تكون في الغالب في مجال العمل الحر في المناطق الحضرية والقروية على السواء، فإن تحسين مستويات الرفاهة داخل القطاع غير الرسمي من خلال الشمول المالي والرقمي وكذلك بناء المهارات الأساسية سيكون عاملا جوهريا في تحسين رفاهتهم.

توليد القيمة: من الضروري تقوية الصلة بين الاستثمارات الأجنبية المباشرة ونمو مؤسسات الأعمال الصغيرة والمتوسطة المحلية حتى تتولَّد مكاسب تتعدَّى القطاعات الرئيسية سريعة النمو (مثل السيارات وصناعة الطيران).

ومع دخول البلاد مرحلة جديدة، ترسم فيها مستقبلا للمغرب فيه سبلا واعدة لتحقيق التنمية في عهد ما بعد كورونا، فإنه بوسع البلاد فتْح صفحة جديدة لزيادة إمكانيات قطاعها الخاص وتهيئة مكانة إستراتيجية للبلاد في السلاسل الصناعية المنتجة وذات القيمة العالية.

Api
Api