رأي

التنمية في عالم شديد التغير

08/29/2016

الدكتور محمود محيي الدين، النائب الأول لرئيس البنك الدولي لأجندة التنمية لعام 2030 وعلاقات الأمم المتحدة والمشاركات

تستعد وفود الدول الأعضاء بالأمم المتحدة للمشاركة في اجتماعاتها لعام 2016، وقد أعلن أن موضوع المناقشة العامة للدورة للحادية و السبعين للجمعية العامة للمنظمة الأممية سيكون عن أهداف التنمية المستدامة و سبل تحقيقها. ففي مثل هذه الأيام من العام الماضي اجتمع قادة الدول في قمة خاصة و أقروا برنامجاً للتنمية المستدامة يمتد العمل به من العام الحالي حتى عام 2030. يتضمن البرنامج 17 هدفاً عاماً تتفرع إلى 169 هدفاً محدداً في مجالات ثلاثة متداخلة و متكاملة. المجال الأول معني بالنمو الاقتصادي الذي تم التأكيد على أن يكون ’إحتوائياً’ فلا يستثني أحداً من ثماره و المجال الثاني يتناول التنمية الاجتماعية و البشرية مع التركيز على نوعية خدمات التعليم و الصحة وعدم الاكتفاء بالمؤشرات الكمية المتعارف عليها، أما المجال الثالث فيتعلق بالأبعاد البيئية وكذلك تغيرات المناخ التي تهدد موارد العالم الطبيعية و من قبلها حياة البشر و أوضاعهم الاقتصادية، خاصة فيما يتعلق بالفقر و مدى وفرة الغذاء. و قد أفردت لتغيرات المناخ قمة في باريس في ديسمبر الماضي و تم الاتفاق على إجراءات ملزمة لتخفيض الانبعاثات الضارة بالمناخ و البيئة و تعهدات مالية لتنفيذها.  

تجدر الإشارة إلى أن هذا البرنامج الجديد جاء ليستكمل ما بدأه برنامج الأهداف الألفية للتنمية الذي بدأ تطبيقه مع بداية هذا القرن، و انتهى مع انقضاء عام 2015 بنجاح في تحقيق بعض أهدافه الثمانية و بإخفاق في بعضها الآخر. فعلى المستوى العالمي تحقق هدف مكافحة الفقر بتخفيض عدد الواقعين تحت خط الفقر المدقع إلى النصف، وأنجزت كذلك  الأهداف الرقمية للتعليم و النوع الاجتماعي من خلال زيادة مشاركة الفتيات في التعليم الأساسي و غيرها. لكن من ناحية أخرى كانت هناك إخفاقات في مجالات مكافحة سوء التغذية و الجوع و  تحديات كبيرة في مجالات الصحة خاصة مع استمرار الوضع الحرج لوفيات الحوامل و الأطفال الرضع. فضلا عن هذا، فهناك تباين في الأداء بين الدول و الأقاليم المختلفة في تحقيق هذه الأهداف رغم تواضع طموحاتها و عدم شمولها. لذا تجد تأكيداً، لأسباب ليست سياسية فقط، في وثائق أجندة التنمية 2030 أن من أولويات الأهداف الجديدة للتنمية ألا تستبعد أحداً. و هو تعهد كبير إذا علمنا أن من يقعون تحت خط الفقر المدقع على مستوى العالم قد قدرهم البنك الدولي بما يبلغ حوالي 700 مليون فقير.

و تواجه أجندة التنمية الجديدة تحديات كبرى في بداية تطبيقها، أولها ما  تفرضه المآسي الإنسانية المرتبطة بنزوح الملايين من أوطانهم و أماكن سكناهم تحت وطأة صراعات و حروب أهلية و عمليات إرهابية، فضلاً عن أوبئة و كوارث طبيعية و أزمات اقتصادية و مناخية. و قد تناولت القمة الإنسانية، التي دعت إليها الأمم المتحدة في شهر مايو الماضي، سبل التعاون بين المؤسسات المالية و التنموية من ناحية و المنظمات الحكومية و غير الحكومية العاملة في مجالات المساعدات الإنسانية و رعاية و غوث اللاجئين. و من المتوقع أن تشهد اجتماعات الجمعية العامة مناقشات لموضوع المهاجرين عموماً و اللاجئين خصوصاً وكذلك مناقشة سبل تيسير التعليم و التدريب للاجئين و إتاحة فرص العمل لهم بسبل قانونية. و تتزامن هذه المناقشات مع زيادة أعداد اللاجئين عبر الحدود لما يتجاوز 16 مليوناً من البشر، و لا يتضمن هذا العدد اللاجئين الفلسطينيين. و تلح الحاجة لحصر تداعيات الأزمات المصاحبة لتحرك البشر عبر الحدود بأعداد كبيرة و مدى قدرة النظم و المؤسسات  القائمة للتعامل معها و تعبئة الموارد المالية اللازمة للمساعدات الإنسانية العاجلة و لمجالات التنمية التي تتعامل مع جذور الأزمات قبل استفحالها.

كما يواجه تطبيق أجندة التنمية، ثانياً، مشكلات ترتبط بتغير الهيكل السكاني لعالم يشهد تزايداً للأعمار بما يتطلب زيادة في الانفاق على الرعاية الصحية و الخدمات الاجتماعية و نظمها. كما يشهد في الوقت ذاته انخفاضاً في الوسيط العمري لسكان الدول منخفضة و متوسطة الدخل بما يستلزم انفاقاً غير مسبوق على نظم التعليم و التأهيل للشباب الباحثين عن 500 مليون فرصة عمل حتى عام 2030. يتركز أغلب هؤلاء الشباب في أفريقيا و جنوب آسيا في أسواق عمل أصبحت تتطلب كفاءة و مهارة أعلى، خاصة مع منافسة الميكنة في فصل جديد من صراع الإنسان و الآلة، المدعومة هذه المرة بطفرات في تكنولوجيا المعلومات، لتنافس العمالة في قطاعات الإنتاج المختلفة. فأي نوع من سياسات العمل سيتطلبها الاقتصاد؟  و أي تدريب سيحتاجه العامل لتزيد انتاجيته بما يجعل إسهامه مجدياَ و أجره مناسباً لمتطلبات حياته؟

كما يقابل تطبيق أجندة التنمية المستدامة تحدياً ثالثاً تشكله موجات النازحين إلى الحضر دون تنظيم أو استفادة لكثير من النازحين من معيشتهم في المدن و ما يمكنها أن تتيحه لسكانها، خاصة  في الأحوال التي تتقاعس فيها عمليات التخطيط و الاستثمار في البنية الأساسية فلا تلاحق تدفق الناس الى المدن هرباً  من قصور وجدوه خارجها. و من ناحية أخرى،  يتوقع أنه مع بلوغ عام  2030 سيعيش ما يزيد على 55% من سكان الدول النامية في المدن، و أن مليارين من البشر سيعيشون في أحياء فقيرة و عشوائيات، و يتطلب هذا استثمارات ضخمة لرفع الإنتاجية الزراعية لتوفير الغذاء و لحسن إدارة موارد المياه و لتطوير الأداء للإدارة المحلية و خدماتها في الريف و الحضر. و تتطلب الدول التي تعاني من آثار لصراعات أو فشل في نظمها أو من تصعيد للعنف أو الإرهاب على أرضها برامجا خاصة للتعامل مع أوضاعها، علما بأن نسبة تقترب من  نصف فقراء العالم يعيشون في 35 دولة تعاني من مثل هذه الأوضاع. فأي تمويل أتيح و أي مؤسسات جهزت للتعامل مع هذه الأزمات؟

و تجدر الإشارة في هذا الشأن إلى الأهمية الحيوية لتطوير نظم الإدارة المحلية لما لها  من سلطات ممتدة عبر القرى و المدن في الريف و الحضر. فمعها يتعامل عموم الناس على مدار اليوم و الساعة فيما يتعلق بتعليمهم و رعايتهم الصحية و أمانهم و خدماتهم الأساسية،. وهذا المستوى من العمل الحكومي تحديداً هو الأكثر تأثيراً في مسيرة النمو و التنمية، و  تراه ذا اولوية في الدول ذات السبق في ركاب التقدم.

  و تأتي هذه التحديات متزامنة مع ما يشهده العالم من تطور في مسارات العولمة و تغير لمراكز الثقل الاقتصادي، إذ تتسارع خطوات التغير في نسب المشاركة في الاقتصاد العالمي و حركة التجارة و تدفق الاستثمارات. و قد تسبب ذلك في تحرك مركز الثقل الاقتصادي حثيثاً من الغرب إلى الشرق عاكساً التقدم النسبي للاقتصادات الآسيوية الضخمة. فلنتأمل خريطة العالم الاقتصادية و عليها يتتبع الاقتصادي ’داني كواه’، الأستاذ بمدرسة لندن للاقتصاد، تحرك مركز الجاذبية الاقتصادية إلى الشرق من موضعه في عام 1980 و الذي كان في نقطة واقعة في المحيط الأطلنطي بين أوروبا الغربية  و أمريكا الشمالية ، ليصبح هذا المركز في شرق الخليج العربي في عام 2015. و مع استمرار اتجاه توقعات النمو للكيانات الاقتصادية على الوجه المقدر فإنه مع حلول عام 2050 سيقع مركز الجاذبية الاقتصادية في الحدود الفاصلة بين الصين و الهند. ستتغير ثوابت و ستتبدل معطيات كثيرة في قواعد لعبة الأمم و النظام الدولي عما تم الاعتياد عليه منذ نهاية الحرب الباردة بل و عما جرى التعامل على أسس تشكلت منذ ما وضعت الحرب العالمية الثانية أوزارها. فأي استثمارات في الهياكل الاقتصادية و البنيتين البشرية و الأساسية تحتاجها الدول للتعامل مع هذه التغيرات الكبرى؟ وأي ترتيب جديد للأولويات و التوجهات ستتبناها الدول الراغبة في التقدم للتعامل مع ما يصاحب هذه التغيرات المتلاحقة؟

و في مواجهة هذه التحديات و المتغيرات الرئيسية، يتوقف نجاح أجندة التنمية الجديدة، التي ستنتهي عام 2030، على قدرة كل دولة على تحويل الطموحات العامة إلى برامج تنفيذية محددة، تدعمها سياسات أحسن التنسيق بينها و مؤسسات حفزت كوادرها و طورت نظمها، و موارد مالية أعدت للإنفاق و الاستثمار بكفاءة في مواضعها.  ينظر البعض الى عام 2030 فيظنونه بعيداً لكنه قريب بما وضعته أجندة التنمية من طموحات كبرى و ما يواجهها من معوقات حرجة و ما تتطلبه من استثمارات تنوء بها ثلاث خطط خمسية تستغرق مدة الخمسة عشر عاما المطلوبة للتنفيذ، أوشك عامها الأول على الانقضاء.

نشر أولا في صحيفة الشرق الأوسط.

 

Api
Api

أهلا بك