رأي

خارج الديار: مهاجرون و لاجئون و مهجرون

09/15/2016

الدكتور محمود محيي الدين، النائب الأول لرئيس البنك الدولي لأجندة التنمية لعام 2030 وعلاقات الأمم المتحدة والمشاركات

زاد عدد المهاجرين زيادة غير مسبوقة، فقد تجاوز عددهم 250 مليوناً في نهاية سنة 2015 منهم 21 مليوناً من اللاجئين، وفقا لدراسة حديثة للبنك الدولي عن المهاجرين و التنمية. والناس منذ بدء الخليقة بين حل و ترحال و حراك عبر الحدود تعددت دوافعه.  و قد لخصت قديماً هذه الدوافع في خمسة وضعت شعراً في بيت مشهور تجده في ديوان الإمام الشافعي، حيث حدد فوائد التغرب عن الأوطان في "تفرج هم، و اكتساب معيشة، و علم، و آداب، و صحبة ماجد".

و في الزمن المعاصر قد يسبق أحد هذه الدوافع غيره أهمية عند بعض المهاجرين، لكن الأسباب الاقتصادية للهجرة تظل هي الأهم بين عوامل الجذب إلى بلدان المهجر و الطرد من أوطان المهاجرين. فارتفاع معدلات البطالة و انخفاض الدخول و زيادة متطلبات المعيشة تكررت في مسوح الاستقصاء كأسباب للهجرة. و مع وجود هذه الفوارق الكبيرة بين متوسطات الدخل السنوي في الدول الأكثر فقراً التي لا تتجاوز600 دولاراً و متوسطات الدخل في الدول الأغنى التي تبلغ 43000  دولاراً، تزيد بشدة عوامل الجذب للهجرة.

تبالغ بعض التقارير المتداولة في تركيزها على الهجرة إلى دول أوروبا و أمريكا الشمالية، و حقيقة الأمر أن الهجرة بين دول الجنوب و بعضها أكبر من الهجرة إلى الشمال. ففي إفريقيا جنوب الصحراء، على سبيل المثال، يتجاوز عدد المهاجرين إلى دول القارة ثلثي إجمالي المهاجرين. كما أن الأشد فقراً من الراغبين في الهجرة ينتهي الأمر بأكثرهم إلى هجرة داخلية في حدود أوطانهم، إذ لا يقدرون على تحمل تكلفة الهجرة الخارجية سواء كانت شرعية أو غير شرعية.

لا تقتصر دوافع الهجرة على فروق الدخل بين الدول الأغنى و الأفقر، فتدني احتمالات تكافؤ الفرص و عدم العدالة الاقتصادية و الاجتماعية و الاختلالات السكانية، عدداً و عمراً و توزيعاً، و التأثير السلبي للتغيرات المناخية خصوصاً على المياه و الزراعة، أمست كلها من عوامل الطرد المتزايدة من الأوطان.  و تيسر حركة الهجرة المتزايدة شبكات العلاقات الممتدة بين الساعين إلى الهجرة و ذويهم و مواطنيهم في المهجر، كما يسهم فيها الانخفاض النسبي لتكلفة الاتصالات و الانتقال. و لا يبدو أن أياً من هذه العوامل الدافعة للهجرة إلى انحسار في المستقبل القريب. و عملياً، فإنه من المفيد مقارنة التكلفة و العائد على وطن المهاجر و دولة مهجره و اتخاذ التدابير لزيادة المنافع المتحققة من الهجرة و تحجيم آثارها السلبية.

تتركز الآثار الاقتصادية الإيجابية للهجرة على المهاجر و وطنه في زيادة الدخل و تخفيف حدة البطالة. و ترتبط الهجرة بتحويلات مالية من العاملين بالخارج و التي بلغت تدفقاتها للدول النامية في عام 2015 حوالي 432 مليار دولار، بما يجعلها من أهم مصادر النقد الأجنبي، بل و المصدر الأول له في كثير من البلدان النامية المصدرة للعمالة. و تجد دولاً قد رأت في التحسن النسبي لأوضاع المهاجرين ما يبرر لحكوماتها فرض رسوم و ضرائب استثنائية عليهم و على تحويلاتهم، و هي كلها إجراءات تتجاوز تكاليفها أي نفع مفترض لها، و باءت بالفشل في دول حاولت التدخل في تدفق تحويلات العاملين لأسرهم فأضرت بها ضرراً بليغاً. و لم تعد التحويلات لمسارها حتى ألغيت هذه الاجراءات التعيسة.

أما عن الآثار السلبية على وطن المهاجر، فيتمثل أهمها في خسارة العقول المهاجرة و ذوي الكفاءات و المهارات، و ما يحققه وجودهم في أوطانهم من نفع عام يتجاوز مجرد قيامهم بأعمالهم و ممارسة مهنهم. هذا التصور يعود الى آراء، انتشرت في السبعينيات من القرن الماضي، حول نزيف الأدمغة، و تسرب عائد استثمارات في التنمية البشرية إلى دول متقدمة. يقابل هذا آراء أخرى تعلي من شأن ما يتحقق للدولة من نفع من خلال التحويلات، و المعالجة، و إن كانت جزئية، لمشكلة ارتفاع معدلات البطالة، بالإضافة إلى ما يمكن تحقيقه من خلال توثيق التواصل بين المهاجرين وأوطانهم و تحفيزهم بما يزيد من فرص عودتهم، أو زيادة الاستفادة من تواجدهم في محال هجرتهم. و هناك تجارب ناجحة في هذا الشأن منها تجربة الهند مع العاملين في الخارج من أبنائها في مجال تكنولوجيا المعلومات على سبيل المثال.  

ينزع الكثيرون في الدول المستقبلة للمهاجرين للاعتقاد، بالمخالفة لما تظهره دراسات أسواق العمل، بأن الهجرة تؤدي الى ضياع فرص للعمل من المواطنين. و يرون كذلك أنها تلقي بأعباء على الخدمات العامة خاصة فيما يتعلق بالصحة والتعليم و المرافق الأساسية، فضلاً عن التأثير السلبي على تماسك النسيج الثقافي و الاجتماعي. أما عن الأثر الإيجابي على دول المهجر فيتمثل في استقطابها لعناصر بشرية في مرحلة العطاء قادرة على العمل و الاستثمار و الابتكار والابداع، فيسدون فجوات في سوق العمل و يزيدون الطلب الفعال و الإنتاجية و يسهمون في إيرادات الدولة و يحسنون من ماليات نظم المعاشات التي تتعرض لضغوط بسبب نقص الاشتراكات و زيادة المستحقات المنصرفة، خاصة في الدول التي يرتفع فيها الوزن النسبي لشريحة كبار السن و أرباب المعاشات. لعل الأمر يحتاج إلى حوار مستمر و إيضاح الحقائق حتى لا تتدثر مشاعر العداء للوافدين باعتبارات ليس لها سند من الواقع، و تتخفى الانطباعات المعادية أصلاً للمهاجرين وراء حجج واهية.

و مع انتشار الحروب و الصراعات الأهلية و عمليات العنف و الإرهاب، زادت تدفقات المهاجرين من اللاجئين إلى أماكن يأمنون فيها نسبياً على حياتهم، و كان ذلك بأعداد غفيرة ظن الناس أنهم لن يشهدوا لها مثيلاً منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية. و قد يفترض البعض أن المشكلات المرتبطة بالنزوح الكبير للاجئين من العوارض الطارئة التي ستزول فور زوال مسبباتها، لكن هيهات، فالأمر له مستتبعات معقدة في نطاق الاقتصاد السياسي، كما أن له أبعاداً إنسانية حرجة. فالنازحون قسراً من ديارهم يبلغ عددهم 65 مليون إنسان، منهم ما يزيد على 40 مليونا ً من المهجرين داخل حدود بلادهم. و على خلاف ما يعتقد البعض، تتحمل دول نامية عربية و إفريقية و آسيوية، أعباء استضافة حوالي 86% من اللاجئين يشكل الأطفال أكثر من نصفهم عدداً. و لما كان متوسط سنوات مكوث اللاجئين في أماكن المهجر يتجاوز 17 عاماً في المتوسط، فإن الأمر يتطلب التعامل مع مجموعة متشابكة من الخدمات و المساعدات الإنسانية العاجلة دون تجاهل الاحتياجات الأساسية و التنموية و الأمنية.

في خلال أيام ستنعقد قمتان تحضرهما وفود الدول الأعضاء بالأمم المتحدة. و تتصدى القمة الأولى لتحديات الهجرة و اللجوء بأعداد كبيرة. و قد أعدت لهذه القمة نصوص لتعهدات و التزامات لحماية الحقوق الإنسانية و القانونية للمهاجرين و اللاجئين، ضمها جميعاً إعلان ستعرض وثيقته لكي تعتمدها الدول في  القمة التي ستنعقد في يوم 19 سبتمبر. و يدعو الإعلان أيضاً للتعاون بين الحكومات و منظمات المجتمع المدني و المؤسسات الدولية و القطاع الخاص للتعامل مع الأزمات الراهنة للحراك عبر الحدود بأعداد كبيرة و مسبباتها و ما يترتب عليها و مواجهة مشكلات التمويل المرتبطة بها. و تتطرق القمة كذلك إلى مراجعة تنفيذ الاتفاقات و التعهدات الدولية و السياسات ذات العلاقة و الاتفاق على آلية للمتابعة الدورية.  و تسعى القمة الثانية، التي ستنعقد متزامنة مع اجتماعات الجمعية العامة في يوم 20 سبتمبر، لتنسيق الجهود الدولية لحشد التمويل اللازم لتطبيق البرامج و المبادرات الموجهة للتعامل مع أزمات اللاجئين. كما تهدف هذه القمة لزيادة الأعداد التي يتم إعادة توطينها قانونياً من اللاجئين و زيادة التمويل المطلوب للمساعدات الإنسانية العاجلة بنسبة 30% و زيادة أعداد المقبولين من اللاجئين في المدارس و للالتحاق بسوق العمل.

هناك اهتمام كبير بما ستسفر عنه أعمال القمتين، سواء للاعتبارات الإنسانية لأوضاع اللاجئين و المساعدات اللازمة لهم في الأجل القصير، أو للأبعاد التنموية للهجرة، و كذلك للتداعيات طويلة الأجل للأزمات الراهنة و تقليل احتمالات حدوثها  مستقبلاً. و مع الانشغال الواجب بالأوضاع الحرجة الراهنة، التي يرجا أن تكون مؤقتة، تلح على الأذهان احتياجات أساسية و متطلبات تعليمية و صحية و ترتيبات لسوق العمل لجيل من النازحين قد يقضي جل شبابه لاجئاً و كل عمره مهاجراً. فكما يقول المثل الإغريقي القديم "لا يوجد أكثر دواماً من الأمور المؤقتة"، و هو ما يستوجب التحسب له.

نُشر المقال أولا في صحيفة الشرق الأوسط. 


Api
Api

أهلا بك