Skip to Main Navigation
خطب ونصوص 10/05/2020

عكس جائحة عدم المساواة: خطاب رئيس مجموعة البنك الدولي ديفيد مالباس

رئيس مجموعة البنك الدولي ديفيد مالباس

خطاب في مدرسة فرانكفورت للتمويل والإدارة

يمكنك مشاهدة إعادة الحدث هنا

مُقدِّمة

شكرا لك، ينس. وشكرا لجامعة فرانكفورت على استضافتي عبر شبكة الإنترنت.  وإنني أتطلع إلى الحوار معكم وتلقِّي الأسئلة من الطلاب الذين سيصبحون قادة مال وأعمال في المستقبل في عالم ما بعد جائحة فيروس كورونا (كوفيد-19). إنني هنا لتهيئة الظروف استعدادا للاجتماعات السنوية لصندوق النقد الدولي ومجموعة البنك الدولي، تلك الاجتماعات التي ستُركِّز بشكل أساسي على جائحة كورونا والديون، وسندخل مع الشركاء في مناقشات عاجلة بشأن قضايا رأس المال البشري، وتغير المناخ، والتنمية الرقمية.

قبل أن أبدأ كلمتي، سأكون مُقصِّرا إنْ لم أذكر أن هذه هي المرة الأولى التي تُلْقى فيها كلمة ما قبل عقد الاجتماعات السنوية لمجموعة البنك الدولي في قارة أوروبا. إن ألمانيا ركيزة رئيسية لمجموعة البنك الدولي، وبقية أوروبا، فهي رابع أكبر بلد مساهم في البنك الدولي للإنشاء والتعمير، ورابع أكبر مساهم في المؤسسة الدولية للتنمية، وقد كانت المستشارة ميركل دوما مؤيدا قويا لأولويات مجموعة البنك الدولي، ومنها معالجة مشكلة الديون وجائحة كورونا، وكذلك العمل المتعلق بالمنافع العامة العالمية. وإنني أفهم أن هذه الأولويات هي أيضا محط تركيز رئاسة ألمانيا للاتحاد الأوروبي التي تستمر حتى نهاية 2020.

وكما قال ينس، إن جائحة كورونا أزمة منقطعة النظير. فتداعياتها هائلة، والناس في البلدان الأشد فقراً سيكابدون على الأرجح أشد المعاناة وأطولها أمدا. لقد أزهقت الجائحة الأرواح، وعطَّلت سبل كسب الرزق في كل ربوع المعمورة. وقد هوت في خضم كساد متزامن بعدد من الاقتصادات أكبر من أي وقت مضى منذ عام 1870 . وقد تُفضِي إلى الموجة الأولى من عِقْدٍ ضائعٍ ينوء بأعباء ضعف النمو، وانهيار كثير من النظم الصحية والتعليمية، وديون مفرطة.

لقد غيَّرت الجائحة العالم بالفعل تغييرا حاسما، وفرضت عليه تحوُّلات موجعة. لقد غيَّرت كل شيء: الطريقة التي نعمل بها، وإلى أي مدى يمكننا السفر والتنقل، والأسلوب الذي به نتواصل ونُعلِّم، ونتعلَّم. إنها ارتقت سريعا ببعض الصناعات -لاسيما قطاع التكنولوجيا- لكنها هوت بصناعات أخرى في غياهب النسيان.

ولقد كان النهج الذي نتبعه شاملا، يُركِّز على إنقاذ الأرواح، وحماية الفئات الفقيرة والأكثر احتياجا، وتحقيق نمو الأعمال المستدام، وإعادة البناء على نحو أفضل. واليوم، سأركِّز على أربعة جوانب عاجلة لهذا العمل: الأول ضرورة مضاعفة الجهود لتخفيف حدة الفقر والتفاوت، والثاني ما يرتبط بذلك من فقدان رأس المال البشري، وما يجب عمله لاستعادته، والثالث الحاجة الملحة لمساعدة البلدان الأشد فقراً على جعل ديونها الحكومية أكثر شفافية، وتقليص أعباء مديونيتها تقليصا دائما، وهما خطوتان ضروريتان لاجتذاب استثمارات فعَّالة، وأخيرا، كيف يمكننا التعاون لتسهيل التغييرات المطلوبة لتحقيق تعاف شامل للجميع وقادر على الصمود.

الموضوع 1: الفقر وعدم المساواة

أولا، لقد تسبَّبت جائحة كورونا في انتكاسة لم يسبقها مثيل للجهود العالمية لإنهاء الفقر المدقع، ورفع متوسط الدخل، وتحقيق الرخاء المشترك.

وأشار ينس إلى توقعات البنك الدولي الجديدة بشأن الفقر التي تشير إلى أنه بحلول عام 2021، سيكون ما بين 110 ملايين و 150 مليون شخص آخر قد سقطوا في براثن الفقر المدقع، ويعيشون على أقل من 1.90 دولار للفرد يوميا. ويعني هذا أن الجائحة والكساد العالمي قد يدفعان أكثر من 14% من سكان العالم في هوة الفقر المدقع.

وتختلف الأزمة الحالية اختلافا صارخا عن كساد عام 2008 الذي تركَّزت الأضرار الناجمة عنه على الأصول المالية، وكان تأثيره على الاقتصادات المتقدمة أشد وطأةً من البلدان النامية. فالركود الاقتصادي، هذه المرة، أوسع نطاقا، وأشد تأثيرا بكثير، وقد ألحق بالعمالة غير المنتظمة والفقراء، لاسيما النساء والأطفال ضررا أكبر مما أصاب من هم أعلى دخلا أو أكثر أموالا.

وأحد أسباب تباين التأثير هو التوسع الهائل في برامج الإنفاق الحكومي للاقتصادات المتقدمة. فقد كانت البلدان الغنية تمتلك الموارد اللازمة لحماية مواطنيها إلى الحد الذي لم يكن بمقدور البلدان النامية تحمله. وثمة سبب آخر هو مشتريات البنوك المركزية من الأصول. وكان حجم هذه المشتريات هائلا لم يسبقه مثيل ودعَّم بنجاح أسواق المال العالمية. ويعود هذا بالنفع على الميسورين ومن لديهم معاشات تقاعد مضمونة ولاسيما في العالم الغني، ولكن ليس واضحا سواء في النظرية أو التطبيق العملي كيف يمكن أن تؤدي أسعار الفائدة القريبة من الصفر وموازنات الأصول والخصوم الحكومية الآخذة في التوسع باستمرار إلى تهيئة وظائف جديدة، أو منشآت أعمال صغيرة قادرة على تحقيق الربح، أو زيادة متوسط الدخل - وهي خطوات رئيسية لعكس اتجاه عدم المساواة.

وتمتلك الاقتصادات الأفقر أدوات أقل على صعيد الاقتصاد الكلي، وعوامل تحقيق الاستقرار، وتعاني من ضعف أنظمتها للرعاية الصحية وشبكاتها للأمان الاجتماعي. وبالنسبة لها، لا توجد سبل سريعة لتغيير مسار الهبوط المفاجئ لمبيعاتها إلى المستهلكين في الاقتصادات المتقدمة أو الانهيار الذي حدث بين عشية وضحاها تقريبا في عائدات قطاع السياحة وتحويلات أفراد الأسر المغتربين العاملين في الخارج. ويبدو جليا أن تحقيق تعافٍ مستدام سيتطلب نموا يعود بالنفع على الجميع، لا على من هم في مراكز السلطة وحدهم. وفي عالم مترابط، أصبح فيه الناس أكثر درايةً ومعرفةً من ذي قبل، ستكون جائحة عدم المساواة هذه - مع اشتداد الفقر وتناقص متوسط الدخل - على نحو متزايد خطرا على حفظ النظام الاجتماعي والاستقرار السياسي، وحتى على الدفاع عن الديمقراطية.

الموضوع 2: رأس المال البشري

ثانيا، فيما يتعلق برأس المال البشري، كانت البلدان النامية قد حقَّقت تقدما ملموسا قبل تفشِّي جائحة كورونا - والجدير بالملاحظة أنها بدأت سد الفجوات بين الجنسين. ورأس المال البشري هو المُحرِّك لنمو اقتصادي مستدام والحد من الفقر. وهو يتألف من المعارف والمهارات والقدرات الصحية التي يكتسبها الإنسان على مدار حياته. ويرتبط ذلك بزيادة دخول الناس، وارتفاع عائدات البلدان، وتقوية التماسك في المجتمعات.

بيد أنه منذ تفشِّي الجائحة، أصبح أكثر من 1.6 مليار طفل في البلدان النامية خارج المدارس بسبب فيروس كورونا، وهو ما يعني احتمال فقدان ما يصل إلى 10 تريليونات دولار من الدخل على مدار العمر لهؤلاء الطلاب. والعنف ضد المرأة في ازدياد، ومن المرجح أيضا أن تزداد وفيات الأطفال في السنوات القادمة: تشير تقديراتنا الأولية إلى زيادة محتملة تصل إلى 45% في وفيات الأطفال بسبب أوجه النقص والقصور في الخدمات الصحية وانخفاض إمكانية الحصول على الغذاء.

وتُنبِئ هذه الانتكاسات بأضرار طويلة الأمد تصيب الإنتاجية، ونمو الدخل، والتماسك الاجتماعي - ولهذا نبذل كل ما في وسعنا لتعزيز الخدمات الصحية والتعليمية في البلدان النامية. وفي مجال الصحة، عمل جهاز الإدارة العليا بمجموعة البنك الدولي مع مجلس المديرين التنفيذيين للمجموعة في مارس/آذار لإرساء استجابة التمويل سريع الصرف لمواجهة فيروس كورونا التي قدمت مساندة طارئة إلى 111 بلدا حتى الآن. ووصلت معظم المشروعات الآن إلى مراحل متقدمة من صرف التمويل لشراء مستلزمات صحية متصلة بالجائحة، مثل الكمامات، ومعدات غرف الطوارئ.

وكان هدفنا اتخاذ إجراءات واسعة النطاق وسريعة في مرحلة مبكرة لتقديم مستويات عالية من صافي التدفقات المالية الإيجابية إلى البلدان الأشد فقراً في العالم. وإننا نحرز تقدما جيدا نحو تحقيق هدفنا المعلن بتقديم 160 مليار دولار من التمويل الطارئ في فترة 15 شهرا ، وسيذهب جزء كبير منه إلى البلدان الأشد فقراً والقطاع الخاص لتمويل التجارة ورأس المال العامل. ويأخذ أكثر من 50 مليار دولار من تلك المساندة شكل منح أو قروض ذات آجال استحقاق طويلة وأسعار فائدة منخفضة لتوفير موارد رئيسية من أجل الحفاظ على أنظمة الرعاية الصحية وشبكات الأمان الاجتماعي أو توسيعها. ومن المحتمل أن يلعب الاثنان كلاهما دورا مهما في الأمد القريب من أجل البقاء على قيد الحياة والحفاظ على الصحة لملايين الأسر.

وإننا نتخذ أيضا إجراءات لمساعدة البلدان النامية فيما يتصل بلقاحات وعلاجات فيروس كورونا. وقد أعلنتُ الأسبوع الماضي أنه من خلال تمديد وتوسيع نهج المسار السريع للتصدِّي لجائحة كورونا، نعتزم إتاحة ما يصل إلى 12 مليار دولار للبلدان لشراء واستخدام لقاحات واقية من فيروس كورونا حالما تتم الموافقة على هذه اللقاحات من العديد من الهيئات التنظيمية التي تطبِّق معايير صارمة في أنحاء العالم. وسيكون هذا التمويل الإضافي للبلدان منخفضة ومتوسطة الدخل التي لا يتاح لها الحصول على موارد كافية، وسيساعدها على تغيير مسار الجائحة لصالح شعوبها. ويستند هذا النهج إلى الخبرة الكبيرة للبنك الدولي في مساندة برامج الصحة العامة والتطعيم، وسيبعث بإشارة إلى الأسواق مفادها أن البلدان النامية ستتاح لها العديد من الوسائل لشراء اللقاحات المُعتمدة، وستكون لديها قدرة شرائية كبيرة.

وتستثمر أيضا مؤسسة التمويل الدولية - ذراعنا للتعامل مع القطاع الخاص - بكثافة في شركات تصنيع اللقاحات من خلال منصتها للصحة العالمية التي تبلغ مخصصاتها 4 مليارات دولار. والهدف من ذلك هو التشجيع على التوسع في إنتاج اللقاحات الواقية من فيروس كورونا وعلاجاته في البلدان المتقدمة والنامية على السواء - وضمان حصول بلدان الأسواق الصاعدة على الجرعات المتاحة. وتعمل مؤسسة التمويل الدولية مع شراكة اللقاحات - تحالف ابتكارات الاستعداد لمواجهة الأوبئة - لتحديد قدرات تصنيع اللقاحات الواقية من فيروس كورونا، مع التركيز على الاختناقات المحتملة.

وللحد من تأثيرات الجائحة على التعليم، يعمل البنك الدولي لمساعدة البلدان على إعادة فتح المدارس الابتدائية والثانوية على نحو آمن وعلى وجه السرعة. فوجود الأطفال خارج المدارس يُؤدِّي في العادة إلى تدهور أوضاعهم من حيث المهارات التعليمية، وبالنسبة للأطفال في البلدان الأشد فقراً، يعد الانتظام في الحضور الفعلي بالمدارس مصدرا مهما للحصول على الغذاء والأمن، فليست معرفة القراءة والحساب وحدها هي التي تتيح سبيلا حيويا للخلاص من الفقر. ويعمل البنك الدولي في 65 بلدا لتنفيذ إستراتيجيات للتعلم عن بُعد تجمع بين الموارد الإلكترونية وشبكات الإذاعة والتلفزيون والتواصل الاجتماعي، والمواد المطبوعة لصالح الأسر الأكثر احتياجا. ودخلنا أيضا في شراكة مع اليونيسف واليونيسكو للتعاون بشأن أُطُر إعادة فتح المدارس.

ففي نيجيريا، على سبيل المثال، قدمنا تمويلا جديدا قيمته 500 مليون دولار من أجل مبادرة الفتيات المراهقات للتعلم والتمكين التي تهدف إلى تحسين فرص التعليم الثانوي بين الفتيات. ومن المتوقع أن يعود المشروع بالنفع على أكثر من 6 ملايين فتاة باستخدام التلفزيون والإذاعة وأدوات التعلم عن بُعد.

الموضوع 3: أعباء الديون

الموضوع العاجل الثالث في كلمتي هو الديون. لقد أدَّى تضافر مجموعة من العوامل إلى موجة من الديون المفرطة في البلدان حيث لا يوجد هامش للخطأ. فأسواق المال العالمية تهيمن عليها أسعار الفائدة المنخفضة، وهو ما فجَّر إقبالا شديدا على الاستثمار الباحث عن العائد الأعلى والذي يدعو إلى الإفراط. ويتعزَّز هذا الأمر بالاختلال في منظومة الديون العالمية التي تضع الديون السيادية في فئة فريدة تحابي الدائنين على حساب الناس في البلد المقترض - فلا توجد إجراءات لإشهار الإفلاس تُغطِّي الديون السيادية وتتيح السداد الجزئي وخفض المطالبات. ونتيجةً لذلك، فإن الناس وحتى أشدهم فقرا وحرمانا في العالم يتوجَّب عليهم سداد ديون حكومتهم مادام الدائنون يرفعون دعاوى لاستيفاء مطالبهم - وحتى من يطلق عليهم الدائنون "الجشعون" الذين يعمدون إلى شراء المطالبات المتعثرة في الأسواق الثانوية، فإنهم يستغلون الإجراءات القضائية، وبنود غرامات أسعار الفائدة، وأحكام المحاكم لزيادة قيمة المطالبات، ويستخدمون الحجز التحفظي على الأموال والمدفوعات لفرض خدمة أعباء الديون. وهو، في أسوأ الحالات، المرادف الحديث لسجن المدين.

علاوة على ذلك، زادت الحوافز السياسية والفرص التي تتيح للمسؤولين الحكوميين الإفراط في الاقتراض. وتستفيد حياتهم الوظيفية من إتاحة الاستدانة لآجال طويلة لأن دورة سداد الديون غالبا ما تأتي بعد دورة العمل السياسي. ويُقوِّض هذا المساءلة عن الديون ويجعل الشفافية أكثر أهمية بكثير مما كانت عليه فيما مضى.

وثمة عامل آخر في الموجة الحالية للديون هو النمو السريع للمقرضين الرسميين الجدد، لاسيما بعض الدائنين الذين يتمتعون بمستويات رسملة جيدة في الصين. إنهم يتوسعون في محافظ قروضهم توسعا كبيرا، ولا يشاركون مشاركة كاملة في عمليات إعادة جدولة الديون التي تم تطويرها لتخفيف موجات الديون السابقة.

ولاتخاذ خطوة أولى نحو تخفيف أعباء الديون على البلدان الأشد فقراً، فإنني في اجتماعات الربيع للبنك الدولي في مارس/آذار، اقترحتُ مع كريستالينا جورجيفا مدير عام صندوق النقد الدولي تعليق سداد أقساط الديون المستحقة على هذه البلدان. وكانت هذه جزئيا استجابةً لجائحة كورونا، ولتلبية حاجة البلدان إلى امتلاك حيز للإنفاق في ماليتها العامة، وكانت أيضا إقرارا بأن أزمة الديون قائمة بالنسبة للبلدان الأشد فقرا. وبموافقة مجموعة العشرين، ومجموعة السبع، ونادي باريس، دخلت مبادرة تعليق سداد أعباء خدمة الديون حيز النفاذ في 1 مايو/أيار. وسهَّلت المبادرة تنفيذ استجابة سريعة ومُنسَّقة لإتاحة حيز إضافي للإنفاق في إطار المالية العامة لتلك البلدان في العالم. وحتى منتصف سبتمبر/أيلول، كان 43 بلدا تستفيد من تعليق سداد أعباء خدمة ديون قيمتها نحو 5 مليارات دولار من دائنين ثنائيين رسميين، وهو ما يُكمِّل التمويل الطارئ المُعزَّز المُقدَّم من البنك الدولي وصندوق النقد الدولي. وقد مكَّنتنا هذه المبادرة أيضا من تحقيق تقدم ملموس بشأن شفافية الديون، وهو ما يساعد البلدان المقترضة ودائنيها على اتخاذ قرارات مدروسة بشأن الاقتراض والاستثمار. وستتضمن نسخة هذا العام من دليل البنك الدولي لإحصاءات الديون الدولية والتي ستصدر يوم الاثنين القادم 12 أكتوبر/تشرين الأول بيانات عن الديون السيادية أكثر تفصيلا وتصنيفا من أي وقت مضى في تاريخه الذي يمتد قرابة 70 عاما.

ويلزم اتخاذ خطوات أخرى كثيرة لتخفيف أعباء الديون. وتتمثل إحدى السبل المتاحة في توسيع وتمديد مبادرة تخفيف أعباء الديون الحالية حتى يتاح وقت لوضع حل أكثر دواما. وكان البنك الدولي وصندوق النقد الدولي قد دعوا مجموعة العشرين إلى تمديد العمل بمبادرة تخفيف أعباء الديون حتى نهاية 2021، وإننا نسلط الضوء على ضرورة أن تحث حكومات مجموعة العشرين على مشاركة كل الدائنين الثنائيين من القطاعين الخاص والعام في المبادرة. وينبغي عدم السماح للدائنين من القطاع الخاص والدائنين الثنائيين غير المشاركين بالاستفادة بدون مقابل من تخفيف أعباء ديون الآخرين، وعلى حساب فقراء العالم.

إنَّ تعليق سداد أعباء خدمة الديون تدبير مؤقت مهم، لكنه ليس كافيا. أولا، لا يشارك الكثير من الدائنين في التعليق، وهو ما يجعل تخفيف أعباء الديون ضحلا للغاية يتعذر معه تلبية الاحتياجات المالية للتصدي لجائحة عدم المساواة التي تحيط بنا. وثانيا، مدفوعات أقساط الديون يجري مجرد تأجيلها لا تخفيضها. والمبادرة لا تُسلِّط الضوء في نهاية نفق الديون. ويبدو هذا جليا واضحا في بيئة التمويل اليوم التي تتميز بأسعار فائدة منخفضة ولآجال طويلة. والقيمة الزمنية المعتادة للنقود ليست ببساطة مجدية، ولذلك فإن عرض الدائنين إرجاء دفع أقساط الدين مع اعتماد أسعار فائدة مركبة يعني في الغالب أن أعباء الديون سترتفع بمرور الوقت ولن تنخفض. ويجب إمعان النظر في الاستخدام التاريخي لمعادلات صافي القيمة الحالية في عمليات إعادة هيكلة الديون من أجل تحقيق العدالة والإنصاف للناس في البلدان المدينة.

يكمن الخطر في أن البلدان الأشد فقراً ستستغرق سنوات أو عقودا حتى تُقنِع الدائنين بخفض أعباء ديونها بدرجة تكفي لمساعدتها على إنعاش النمو والاستثمار. وبسبب شدة هذه الجائحة، أعتقد أنه يجب علينا السعي على وجه السرعة لتحقيق خفض ملموس في رصيد الديون المستحقة على البلدان التي تمر بضائقة مديونية. بيد أنه في ظل النظام الحالي، قد يتعين على كل بلدٍ مهما كان مدى فقره السعي جاهدا للخروج من هذه الضائقة مع كل دائن. ويتمتع الدائنون في العادة بوضع مالي جيد، ولديهم محامون يحصلون على أعلى الأجور يدافعون عنهم، في أغلب الأحيان في محاكم الولايات المتحدة والمملكة المتحدة التي تجعل إعادة هيكلة الديون أمرا صعبا. ولا شك أن هذين البلدين - وهما من أكبر المساهمين في تمويل التنمية - بوسعهما القيام بمزيد من العمل للتوفيق بين سياساتهما تجاه البلدان الأشد فقرا، وقوانينهما التي تحمي حقوق الدائنين لمطالبة هذه البلدان بسداد أقساط الديون.

ويلزم اتخاذ عدة خطوات. أولا، كما ذكرتُ آنفا، المشاركة الكاملة لكل الدائنين الرسميين والتجاريين في تعليق سداد الديون من أجل كسْب الوقت. وثانيا، الشفافية الكاملة لشروط الديون القائمة والجديدة والالتزامات الشبيهة بالديون لحكومات البلدان الأشد فقرا. ويجب على الدائنين والمدينين على السواء تبنِّي هذه الشفافية، ولكن لم يفعل أيٌ منهما ما فيه الكفاية في هذا الصدد. وثالثا، باستخدام هذه الشفافية الكاملة والوافية نحتاج إلى تحليل دقيق لقدرة البلد المعني على الاستمرار في تحمل أعباء الديون في الأجل الطويل بغية تحديد مستويات الديون السيادية التي سيُمكِن الوفاء بها وتتسق مع أهداف النمو والحد من الفقر. وستعود هذه الدرجة من الشفافية والتحليل أيضا بنفع كبير فيما يتعلق بالالتزامات العامة للبلدان المتقدمة، مثل تقديرات الإنفاق لصناديق معاشات التقاعد العامة. ورابعا، نحتاج إلى أدوات جديدة للمضي قدما في خفض رصيد الديون المستحقة على البلدان الأشد فقراً. ويقترح البنك الدولي وصندوق النقد الدولي على لجنة التنمية خطة عمل مشتركة بنهاية عام 2020 لخفض الديون على البلدان المؤهلة للاقتراض من المؤسسة الدولية للتنمية والتي تمر بأوضاع مديونية يتعذر الاستمرار في تحمُّل أعبائها.

ومن خلال نظرة أوسع، فإنه منذ ظهور جائحة كورونا، اتسع نطاق تحدي أعباء الديون الكبيرة، وبات يُعرِّض للخطر الملاءة المالية للكثير من منشآت الأعمال. وتُظهِر تقديرات بنك التسويات الدولية أن 50% من منشآت الأعمال لا تمتلك السيولة الكافية لدفع تكاليف أعباء خدمة الديون خلال العام القادم.

وقد يؤدِّي اشتداد ضائقة مديونية الشركات إلى خروج شركات تتمتع -في غير ذلك- بمقومات البقاء من السوق، وتفاقُم فقدان الوظائف، وإضعاف ريادة الأعمال، وإبطاء آفاق النمو لفترة ليست قصيرة في المستقبل. ويعمل البنك الدولي ومؤسسة التمويل الدولية كلاهما مع البلدان المتعاملة معنا لمعالجة هذه القضية، ومساعدتها على تقوية وتحسين أُطُر الملاءة المالية، وفي الوقت نفسه تعزيز رأس المال العامل لمنشآت الأعمال ذات الأهمية للنظام المالي.

الموضوع 4: رعاية تعافٍ شامل للجميع وقادر على الصمود

يتعلق الموضوع الرابع برعاية تعافٍ شامل للجميع وقادر على الصمود، وقد أظهرت جائحة كورونا - مع ما خلَّفته من آثار مميتة - أن الحدود الوطنية لا تكفل حماية كافية من بعض الكوارث. لقد أكَّدت على عمق الصلات بين النظم الاقتصادية، وصحة الإنسان، والرفاهة العالمية. وجعلت أذهاننا تُركِّز على بناء أنظمة ستحمي على نحو أفضل كل البلدان المرة القادمة، لاسيما مواطنينا الأشد فقرا والأكثر احتياجا.

ومن الضروري أن تعمل البلدان من أجل تحقيق أهدافها المتصلة بالمناخ والبيئة. وثمَّة أولوية بالغة الأهمية للعالم هي خفض انبعاثات الكربون الناجمة عن توليد الكهرباء، وهو ما يقتضي إلغاء المشروعات الجديدة لتوليد الكهرباء التي تعتمد على الفحم والنفط، والتخلص تدريجيا من المُولِّدات القائمة الكثيفة في إطلاق الانبعاثات الكربونية. والكثير من أكبر القطاعات المُسبِّبة لانبعاثات غازات الدفيئة - في بلدان العالم النامية، بل وللإنصاف، في العالم المتقدم أيضا - لا تحقق حتى الآن تقدما كافيا في هذا المجال.

وفي خضم الجائحة، مازالت مجموعة البنك الدولي أكبر مؤسسة مالية متعددة الأطراف تستثمر في تدابير مكافحة تغير المناخ. وخلال السنوات الخمس الماضية، قدَّمنا 83 مليار دولار استثماراتٍ متصلة بالمناخ. وساعدت أعمالنا 120 مليون شخص في أكثر من 50 بلدا في الحصول على بيانات الطقس وأنظمة الإنذار المبكر ذات الأهمية البالغة لإنقاذ الأرواح عند وقوع الكوارث. وأضفنا ما مجموعه 34 جيجاوات من الطاقة المتجددة إلى شبكات الكهرباء لمساعدة المجتمعات المحلية ومنشآت الأعمال والاقتصادات على الازدهار. ويسعدني أن أعلن أنه في السنة المالية 2020، السنة الأولى لي في منصبي كرئيس، قدَّمت مجموعة البنك الدولي استثمارات متصلة بالمناخ أكثر من أي وقت مضى في تاريخها.

ونعتزم توسيع نطاق هذا العمل في السنوات الخمس القادمة. ونحن نساعد البلدان على وضع قيمة اقتصادية للتنوع الحيوي - بما في ذلك الغابات، والأراضي، والموارد المائية - حتى يمكنها تحسين إدارة هذه الموارد الطبيعية. ونساعدها على تحديد كيف تُؤثِّر المخاطر المناخية على النساء وغيرهم ممن يعانون بالفعل من الحرمان.

ونعمل أيضا مع الحكومات من أجل إلغاء أشكال دعم الوقود الضارة بالبيئة أو إعادة توجيهها، وتقليص الحواجز التجارية أمام الإمدادات الغذائية والطبية. بيد أن التقدم الذي أحرزه العالم في هذا المجال مازال بطيئا. وخطط الإنفاق المتصلة بجائحة كورونا قد يكون لها تأثير حاسم على زيادة مصادر الطاقة منخفضة الانبعاثات الكربونية، وتسهيل تعاف أشد قوة وأقدر على الصمود والتكيف مع الصدمات.

وفيما يتعلق بالاقتصاد نفسه، فإن إدراك شدة الكساد، واحتمال أن يطول أمده، وهي خطوة مهمة في تحقيق تعافٍ مستدام ستتيح للاقتصادات والناس إمكانية التغيير وتبنيه. وسيتعين على البلدان أن تتيح لرأس المال والأيدي العاملة والمهارات والابتكار الانتقال إلى بيئة مختلفة للأعمال بعد زوال الجائحة. ويُعطِي هذا أهمية للعمال ومنشآت الأعمال التي تستخدم مهاراتهم وابتكاراتهم بطرق جديدة في بيئة تجارية من المرجح أن تعتمد بدرجة أكبر على الترابط الإلكتروني أكثر من اعتمادها على السفر والمصافحة بالأيدي.

وللتعجيل بالتعافي، سيتعين على البلدان إيجاد توازن أفضل بين الحفاظ على منشآت أعمال القطاعين العام والخاص الرئيسية، من ناحية، وإدراك أن الكثير من منشآت الأعمال لن تجتاز الكساد من ناحية أخرى. وفي حالات كثيرة، ستكون جهود المساندة والدعم أكثر فعالية إذا ساعدت الأسر بدلا من تدعيم هياكل الأعمال التي كانت قائمة قبل تفشي الجائحة.

وسيتعين تغيير وتحسين بيئة الأعمال من أجل بناء تعاف أسرع وأكثر استدامة. وجزء رئيسي من هذا المسعى من أجل التغيير هو حيازة الأصول المتعثرة وإعادة تجهيزها بُغية إصلاحها في أسرع وقت ممكن. وسيستلزم هذا على الأرجح طائفة متنوعة من العوامل من تسريع إجراءات إشهار الإفلاس، وسبل قانونية جديدة لتسوية المطالبات الصغيرة، وبدائل أخرى للتسوية خارج المحاكم، مثل التحكيم. وهذه لبنات مهمة من أجل تعاقدات فعالة وتخصيص رؤوس الأموال، لكن لم يتبنَّاها إلا قليل من البلدان النامية. وتجعل شدة الكساد تبسيط القانون التجاري وشفافيته أمرا على القدر نفسه من الأهمية للتعافي مثل إتاحة ديون جديدة وأسهم حقوق الملكية.

ولن يكون أي من هذه الخطوات كافيا، والحقيقة هي أن المعونات حتى من أشد المانحين سخاء وكرما لا يمكنها تحقيق الأهداف المرجوة. ومجرد منع الزيادة المحتملة في معدلات الفقر المدقع بسبب الجائحة في عام 2020 سيتطلب 70 مليار دولار سنويا (بواقع دولارين يوميا لنحو 100 مليون شخص) وسيتجاوز هذا القدرات المالية لمجموعة البنك الدولي أو أي من مؤسسات التنمية. وما أراه هو أن الحلول المستدامة لا يمكن أن تتأتي إلا عن طريق تبنِّي التغيير - من خلال الابتكار والاستخدامات الجديدة للأصول القائمة، والعمال، والمهارات الوظيفية، وتسوية أعباء الديون المفرطة، ونظم الحوكمة القادرة على إرساء سيادة القانون على نحو مستقر وفي الوقت نفسه اعتماد التغيير.

الخاتمة

وفي الختام،  لقد أشرتُ إلى الحاجة الملحة إلى معالجة الفقر وعدم المساواة، ورأس المال البشري، وخفض الديون، وتغير المناخ، وقدرة الاقتصاد على التكيف بوصفها عناصر لضمان تعاف قادر على الصمود. وأظهرت هذه الأزمة التي تحدث مرة واحدة في القرن السبب في أن التاريخ لا يكرر نفسه على وجه الدقة - لأن البشرية تتعلم من أخطائها. ولم تؤد الجائحة حتى الآن إلى التأثيرات الجانبية المدمرة التي شهدتها أزمات سابقة - لا التضخم المفرط، ولا الانكماش، ولا المجاعة واسعة النطاق. وحتى على الرغم من أن فقدان الدخل، وتفاوت الآثار كان أشد من معظم الأزمات السابقة، فإن الاستجابة الاقتصادية العالمية حتى الآن كانت أكبر بكثير مما كنا نتوقع في بدايات هذه الأزمة.

وسيتعين تمديد الاستجابة التنموية وتكثيفها سواءً من حيث الحالة الصحية الطارئة، أو الجهود الرامية إلى مساعدة البلدان على إيجاد أنظمة فعالة للدعم والمساندة وخطط للتعافي. وسيُمكِننا تعزيز التعاون من تبادل المعارف وابتكار وتطبيق حلول ناجعة بخطى أسرع. وسيتيح للمبدعين ابتكار لقاح يقهر الفيروس ويسترد ثقة الناس في المستقبل. وبالعمل من خلال كل القنوات، يحدوني الأمل - وأشعر باليقين - أنه يمكننا اختصار أمد الكساد وبناء أساس قوي لنموذجٍ أكثر دواما للرخاء، نموذجٍ يمكنه النهوض بكل البلدان وكل الشعوب.

شكراً جزيلاً.

Api
Api