خطب ونصوص

نحو عولمة مستدامة لا تستثني أحداً

10/10/2007


روبرت ب. زوليك نادي الصحافة الوطنية ـ واشنطن العاصمة

بالصيغة المعدة للإلقاء

بعد انقضاء 100 يومٍ منذ تقلدي مهام منصبي كرئيس لمجموعة البنك الدولي، أود أن أشاطركم بعضاً من انطباعاتي وأفكاري الأولية حول التوجُّهات الإستراتيجية لهذه المؤسسة.

بداية، أود أن أعرب عن عميق تقديري للتشجيع والدعم اللذين حظيت بهما من كل حدب وصوب. ولديَّ إحساس بأن الكثيرين من مختلف أنحاء العالم ـ في البلدان النامية والبلدان المتقدمة على حد سواء ـ يدركون مدى الحاجة إلى هذه المؤسسة الفريدة وما تتيحه من إمكانات. إن مجموعة البنك الدولي واحدة من أعظم المؤسسات المتعددة الأطراف التي تم إنشاؤها في أعقاب انتهاء الحرب العالمية الثانية. وبات لزاماً عليها، بعد مضي ستين عاماً، أن تُكيف نفسها مع الظروف التي تختلف أيمّا اختلاف في عصر العولمة الجديد.

وقد أعانني موظفو مجموعة البنك الدولي على التعلّم، وبيّنوا لي ما تقوم به من عمل حيوي في الميدان، وأتاحوا لي أفكاراً جديدة في الوقت الذي نعمل فيه على تحديد الاتجاه نحو المستقبل. ويقدم مجلس المديرين التنفيذيين توجيهات سديدة بينما نسعى جادين إلى ترجمة النوايا الحسنة والتحليلات الجيدة إلى إجراءات منتجة.

وجه مجموعة البنك الدولي

مع ذلك، فإن الوجه الحقيقي لمجموعة البنك الدولي ليس هو ذلك الوجه الذي يراه المرء في العادة في واشنطن، أو في غرف ودهاليز إعداد الخطط في عواصم البلدان المساهمة الكبرى في البنك.

فعندما زرت مقاطعة ين باي الواقعة في المنطقة الجبلية الشمالية من فييتنام في أغسطس/آب من هذا العام، التقيت امرأة لديها الآن تيار كهربائي لمساعدتها على طحن الأرز، وضخ المياه، وتشغيل مراوح الهواء، وإضاءة منزلها المكون من غرفة واحدة حتى يمكن لأطفالها استذكار دروسهم ليلاً ـ وكل ذلك بفضل قيام البنك الدولي بتمويل مشروع للكهربة في فييتنام. تجدر الإشارة إلى أن استخدام الكهرباء في الوقت الحالي يسهل الأعمال المنزلية لأكثر من 90 في المائة من العائلات في المناطق الريفية في فييتنام. وتؤدي كهربة المناطق الريفية في المقام الأول، كما هو الحال في مجتمعات أخرى، إلى تمكين النساء ـ اللائي يتحملن القسط الأكبر من وطأة العمل الزراعي اليومي ـ من أسباب القوة والمنعة.

وفي هندوراس، يساعد البنك الدولي حالياً على إنقاذ متنزه بيكو بينيت الوطني (Pico Bonito National Park) من خلال صندوق الكربون الحيوي، حيث يدعم المزارعين الذين يتحولون عن قطع أشجار الريدوندو المحلية إلى بيع حاصلاتهم من الحبوب والبزور وغرس الشتلات. وكما يقول أحد المزارعين، " إن أشجارنا مازالت قائمة بيننا، وبوسعي أيضاً أن أكسب بعض المال، ربما أكثر مما كنت أكسب في الماضي. بل ونقوم أيضاً بالاعتناء بالشجيرات البرية الصغيرة".

وفي نيجيريا، ساعدت مؤسسة التمويل الدولية، وهي ذراع مجموعة البنك الدولي المعني بالتعامل مع القطاع الخاص، أماً عزباء (بلا زوج) في قرية أوفيكو في الحصول على قرض بالغ الصغر لتشغيل الهواتف في قريتها. حيث كان القرويون يضطرون إلى السفر لمدة يوم حتى يتمكنوا من إجراء مكالماتهم الهاتفية. وتساعد هذه الأم المشتغلة بالأعمال الحرة حالياً جيرانها على التواصل مع العالم الأوسع نطاقاً، في الوقت الذي تكسب فيه بعض النقود حتى تتمكن من سداد مصاريف الدراسة لأطفالها، فضلاً عن دفع تكلفة عقاقير علاجها من فيروس ومرض الإيدز.

إن الناس في كل مكان يريدون، إن أُتيحت لهم الفرص، بناء حياة أفضل لأنفسهم ولأطفالهم. ويمكن لهذا الحافز، لو توافرت الظروف الملائمة، أن يُسهم في بناء مجتمع عالمي سليم ومزدهر.

عولمة مستدامة لا تستثني أحداً: الاحتياجات

نعيش في عصر العولمة، إلا أن ملامح ذلك العصر مازال يلفها الغموض وعدم اليقين. فمنذ نهاية الحرب الباردة، ازداد عدد سكان البلدان المنخرطة في اقتصاد السوق العالمي من حوالي بليون نسمة إلى أربعة أو خمسة بلايين نسمة ـ ـ مما أدى إلى إحداث زيادة واسعة النطاق في قوة العمل المُنتجة، وبناء مراكز صناعية وخدمية جديدة في مختلف أنحاء بلدان العالم النامية، وزيادة الطلب على الطاقة والسلع الأولية، فضلاً عن خلق احتمالات كبيرة لزيادة معدلات الاستهلاك. وتدخل مجمعات وأرصدة جديدة من المدخرات إلى تدفقات رؤوس الأموال العالمية التي تنجذب بدورها إلى فرص الاستثمار المتاحة في بلدان الأسواق الناشئة، والاقتصادات المتقدمة. وتمضي جهود نقل المهارات والتكنولوجيات والمعلومات والمعارف العملية التطبيقية قدماً بقوة إلى الأمام.

ومنذ عام 1990، ازدادت تدفقات التجارة العالمية بأكثر من الضعف. وتعمل الاقتصادات الأكثر انفتاحاً على تخفيض تكاليف السلع والخدمات. كما تتزايد أعداد البلدان التي تعول على عملية النمو التي تقودها الصادرات. وبينما مازالت الواردات من الاقتصادات المتقدمة على درجة من الأهمية، فإن أنماط التجارة الجديدة تجسد سلاسل التوريدات الإقليمية والعالمية، وتفضي إلى زيادة التبادل التجاري "فيما بين بلدان الجنوب". ونتيجة لذلك، استطاع حوالي 300 مليون شخص الفكاك من براثن الفقر المدقع.

غير أنه مازال هناك الكثيرون ممن يعيشون على حافة الفقر، ويشهد البعض تراجعاً مطرداً. وينطبق ذلك الوضع على بلدان ومناطق وشرائح من السكان داخل البلدان، أو الأفراد. ولاستبعادهم من عملية التنمية أسباب عديدة ـ منها الصراعات، وسوء إدارة الحكم والفساد، والتمييز، والافتقار إلى أبسط الاحتياجات الإنسانية الأساسية، والأمراض، وغياب مرافق ومقومات البنية الأساسية، وسوء الإدارة وضعف الحوافز الاقتصادية، وغياب حقوق الملكية وسيادة القانون، بل ويمكن أن نضيف إلى ذلك عوامل أخرى من قبيل الجغرافيا والمناخ.

ويمكننا أيضاً رؤية التحدي البيئي المتعلق بالطفرة غير العادية في النمو، مجسداً في مياه الأنهار التي تحول لونها إلى السواد، وسحب الدخان التي باتت تحجب ضوء الشمس، ناهيك عن الأخطار المُحدقة بالصحة والمناخ.

إن العولمة تتيح فرصاً مدهشة. لكن الاستبعاد والفقر الطاحن والأضرار البيئية تخلق جميعاً مخاطر وتنطوي على تحديات. وأكثر من يعاني الأمرّين من جراء ذلك هم من تقل حيلتهم وتعجز قدرتهم ـ كالشعوب الأصلية، والنساء في البلدان النامية، والفقراء في المناطق الريفية، والأفارقة، وأطفالهم جميعاً.

وتقوم رؤية مجموعة البنك الدولي على المساهمة في بناء عولمة مستدامة لا تستثني أحداً ـ حتى يمكن القضاء على الفقر، وتعزيز النمو مع العناية بالبيئة، وخلق مستقبل مفعم بالأمل وزاخر بالفرص.

وفي عام 2000، وضعت البلدان الأعضاء في الأمم المتحدة ثمانية أهداف إنمائية للألفية الجديدة ـ هي عبارة عن غايات طموحة تستهدف تخفيض عدد الفقراء بواقع النصف، ومحاربة الجوع والمرض، وتوفير الخدمات الأساسية إلى الفقراء، وذلك بحلول عام 2015. وتلك الأهداف ـ وهي أهدافنا أيضاً ـ ملصقة بجوار المدخل الرئيسي لمبنى مقر البنك، وهي تُذكّرنا كل يوم بالهدف الذي جئنا إلى العمل من أجله.

ولابد أن يتم ربط تلك الأهداف المتعلقة بالتنمية الاجتماعية السليمة بالشروط الواجب استيفاؤها لتحقيق نمو مستدام يلعب القطاع الخاص فيه دوراً محركاً، وذلك ضمن إطار مساند من السياسات العامة.
ولنتطرق إلى بعض تلك الاحتياجات.

تصيب الملاريا حوالي 500 مليون شخص سنوياً على مستوى العالم. ومع ذلك، يمكننا الاقتراب من القضاء على هذا المرض الأشدّ فتكاً بالأطفال في أفريقيا. لكن ذلك سيقتضي استثمارات بمبلغ 3 بلايين دولار أمريكي تقريباً سنوياً على مدى السنوات القليلة المقبلة لتزويد كل أسرة مُعرضة لمخاطر الملاريا بما يلزمها من ناموسيات مُعالجة، وعقاقير طبية، إلى جانب توفير كميات متواضعة من المبيدات الحشرية لرشها داخل المنازل.

وتشير تقديرات الوكالة الدولية للطاقة إلى أن بلدان العالم النامية ستحتاج إلى استثمارات بقيمة حوالي 170 بليون دولار أمريكي في قطاع الطاقة الكهربائية خلال السنوات العشر المقبلة حتى تتمكن فقط من تلبية احتياجاتها من إمدادات الكهرباء، أضف إلى ذلك مبلغاً إضافياً بقيمة 30 بليون دولار أمريكي سنوياً للتحول إلى استخدام مزيج منتجات الطاقة المنخفضة الكربون.

علاوة على ذلك، هناك حاجة لتوفير مبلغ 30 بليون دولار أمريكي أخرى سنوياً لتحقيق الهدف الإنمائي للألفية المتعلق بتوفير إمدادات مياه الشرب المأمونة إلى 1.5 بليون نسمة، وخدمات الصرف الصحي إلى بليوني نسمة يفتقرون إلى الضروريات الأساسية للحياة، بالإضافة إلى تحسين المساواة بين الجنسين في البلدان الفقيرة.
وثمة حاجة أيضاً لتوفير مبلغ 130 بليون دولار أمريكي أخرى سنوياً لتلبية متطلبات مرافق البنية الأساسية لقطاع النقل في بلدان العالم النامية الآخذة في النمو، بما في ذلك مبلغ يُقدر بحوالي 10 بلايين دولار أمريكي سنوياً من أجل إنشاء محطات وصول الحاويات البحرية لاستيعاب فرص التبادل التجاري.

ولتوفير التعليم الابتدائي لنحو 80 مليون طفل غير ملتحقين بالمدارس، وهو أحد الأهداف الإنمائية الأخرى للألفية الجديدة، فإن البلدان المنخفضة الدخل ستحتاج إلى حوالي 7 بلايين دولار أمريكي سنوياً.

كيف يمكن لمجموعة البنك الدولي أن تمد يد المساعدة

إن الوفاء بتلك الاحتياجات ليس، بطبيعة الحال، مجرد مسألة أموال. كما أنه ليس دور مجموعة البنك الدولي أن تقوم بتمويل تلك الاستثمارات بمفردها.

إن الغرض من مجموعة البنك الدولي هو مساعدة البلدان على مساعدة أنفسها، وذلك عن طريق حفز رؤوس الأموال وإصلاح السياسات من خلال إتاحة مزيج من الأفكار والخبرات، وتطوير الفرص أمام أسواق القطاع الخاص، وتوفير الدعم والمساندة اللازمين لترسيخ أسس الحكم الرشيد ومكافحة الفساد ـ مدفوعة في ذلك بمواردنا المالية.

كما يتمثل الغرض من مجموعة البنك الدولي كذلك في الدفع قدماً بالأفكار الخاصة بالمشاريع والاتفاقيات الدولية بشأن التجارة، والتمويل، والرعاية الصحية، ومكافحة الفقر، والتعليم، وتغيّر المناخ، حتى يمكن أن تعود بالنفع على الجميع، ولاسيما الفقراء الذين يسعون إلى الحصول على فرص جديدة.

وينبغي علينا أن نعمل على توسيع نطاق حدود تفكيرنا بشأن السياسات والأسواق، وأن نطرق الاحتمالات الجديدة، وليس فقط إعادة تدوير ما ثبت إمكانية تطبيقه مع ميزة مالية متواضعة.

ومنذ حين وأنا أؤكد وأشدد على فكرة مجموعة البنك الدولي ككل لإثبات ذلك. إننا مؤسسة واحدة، تعمل من خلال مؤسسات متخصصة منتسبة إليها، كما هو الحال بالنسبة للكثير من الشركات المالية الكبيرة. وينبغي علينا أن ندعم تواصلنا وفعاليتنا كمجموعة واحدة.

ومجموعة البنك الدولي تضم أربعة مكونات رئيسية. حيث يتيح البنك الدولي للإنشاء والتعمير (IBRD)، وهو ذراع مجموعة البنك للتمويل العام، قروضاً على أساس أسعار السوق، وأدوات إدارة المخاطر، وغير ذلك من الخدمات المالية، ويقرن ذلك بخبرات وتجارب إنمائية عميقة. في حين تقدم المؤسسة الدولية للتنمية (IDA)، وهي ذراع مجموعة البنك المعني بتقديم المعونات، قروضاً بدون فوائد ومنحاً إلى أشد بلدان العالم فقراً البالغ عددها 81 بلداً، بالإضافة إلى المساعدات الكبيرة للتخفيف من أعباء مديونيتها. أما مؤسسة التمويل الدولية (IFC)، وهي ذراع مجموعة البنك الدولي المعني بالتعامل مع القطاع الخاص، فإنها تقوم بالاستثمار في أسهم رأس المال، وتتيح قروضاً وضماناتٍ، بينما تقوم بتقديم الخدمات الاستشارية في البلدان النامية. وتتيح الوكالة الدولية لضمان الاستثمار (MIGA) التأمين ضد المخاطر السياسية (ضمانات). ويمكن لتلك المؤسسات، عند العمل معاً، زيادة تأثير تلك الأدوات لضمان أن يكون الأثر النهائي لمجموعة البنك الدولي ككل أكبر من أثر كل مؤسسة على حدة.

وتشاطر تلك المؤسسات مجموعةً من المعارف والخبرات المتخصصة تغطي طائفة من المجالات المتعلقة بالتنمية. فتقديم تلك المعارف وتوسيع نطاقها واختبارها ـ مقرونة بتقديم الموارد التمويلية أو بشكل منفصل ـ يشكل أهمّ جزء من العمل الذي نقوم به.

الخطوات الأولى

على مدى الشهرين الماضيين، بدأ جهاز إدارة مجموعة البنك الدولي، من خلال العمل الوثيق مع مجلس المديرين التنفيذيين، في اتخاذ التدابير اللازمة للمضي قدماً. وللقيام بذلك، نعمل أيضاً على تقوية أوجه التآزر والتعاون فيما بين مؤسسات مجموعة البنك الدولي.

وفي هذا العام، نقوم بإعادة تجديد موارد المؤسسة الدولية للتنمية، التي تمثل أداة التمويل الرئيسية لمجموعة البنك لصالح البلدان الأكثر فقراً، ولاسيما أفريقيا جنوب الصحراء. ويمثل ذلك ما يُعرف بفترة التجديد الخامس عشر لموارد المؤسسة الدولية للتنمية (IDA-15)، حيث تغطي كل فترة تجديد السنوات الثلاث المقبلة.

ونعكف منذ مدة، مع حوالي 40 بلداً مانحاً بالإضافة إلى البلدان المقترضة، على مناقشة كيفية تحديد الأولويات، وتدعيم السياسات، وتحسين فعاليتنا مع بلدان المؤسسة الدولية للتنمية. إن سخاء المانحين يُعتبر عنصراً أساسياً لنجاح تلك الجهود، ومما شجّعنا في هذا الصدد المساندة التي يبديها المانحون لتحقيق نتيجة طموحة.
وأود أن يعرف المانحون كافة ـ بشكل واضح وصريح ـ أن مجموعة البنك الدولي سوف "تفي بتعهدها" عندما يتعلق الأمر بتعزيز موارد المؤسسة الدولية للتنمية.

ولذا، يسعدني أن أعلن أن مجلس المديرين التنفيذيين بالبنك الدولي قد وافق على ضرورة تصدر مجموعة البنك الدولي هذا المضمار من خلال السعي للمساهمة بمبلغ 3.5 بليون دولار أمريكي من مواردها الذاتية من أجل التجديد الخامس عشر لموارد المؤسسة. ويزيد ذلك المبلغ بواقع الضعف على مبلغ 1.5 بليون دولار أمريكي الذي تعهدنا به للتجديد الرابع عشر لموارد المؤسسة في عام 2005. وستحفز تلك الزيادة الأكثر قوة التي أعلنا تقديمها البلدانَ المانحة الأخرى على الالتزام بإجراء زيادات طموحة لمساعدة الأشخاص والبلدان الأشدّ فقراً، ولاسيما في مناطق أفريقيا وجنوب آسيا وشرقها. وقد سنت جمهورية جنوب أفريقيا بالفعل معياراً طيباً من خلالها تعهدها بزيادة نسبتها 30 في المائة في مساهمتها في موارد المؤسسة الدولية للتنمية. والآن، بات لزاماً على مجموعة الثمانية والبلدان المتقدمة الأخرى أن تترجم كلماتها الواردة في إعلانات القمة إلى أرقام جدّية وفعلية.

إن مساهمتنا في المؤسسة الدولية للتنمية تعتمد، بطبيعة الحال، على مستوى الدخل السنوي لكل من البنك الدولي للإنشاء والتعمير ومؤسسة التمويل الدولية حسبما يوزعه مجلسا المؤسستين كل عام، لكننا نرى أن هذا الهدف الواسع يمكن تحقيقه. ونحث المانحين الآخرين على أن يحذوا حذونا أيضاً.

ثانياً، إننا ملتزمون بإستراتيجية أكثر قوة لنمو مؤسسة التمويل الدولية. فالمؤسسة تتمتع بمستوى جيد من الرسملة، وهي تدعم حالياً استثماراتها في القطاع الخاص في بلدان المؤسسة الدولية للتنمية، والبلدان المنخفضة الدخل، والمناطق والقطاعات التي تمسّ فيها الحاجة إلى الاستثمار في البلدان المتوسطة الدخل.

وثالثاً، سنعمل على تعميق أواصر التعاون وتوثيق العرى بين المؤسسة الدولية للتنمية ومؤسسة التمويل الدولية بغية تعزيز القطاع الخاص في اقتصادات تلك البلدان. يُذكر أن 37 في المائة من استثمارات مؤسسة التمويل الدولية في العام الماضي كانت في بلدان المؤسسة الدولية للتنمية، وسنعمل على زيادة تلك النسبة. وتعمل مؤسسة التمويل الدولية حالياً على تدشين صناديق جديدة للاستثمار في البنية الأساسية وفي أسهم مؤسسات التمويل الأصغر في بلدان المؤسسة الدولية للتنمية. علاوة على ذلك، يمكن لهاتين المؤسستين تنفيذ استثمارات مشتركة لمساندة الشراكات بين القطاعين العام والخاص في مجال البنية الأساسية، ولاسيما في قطاعات: الطاقة، والنقل، وإمدادات المياه، والزراعة، والتمويل الأصغر. كما يمكن لتلك المشاريع مساندة الاندماج في الأسواق الإقليمية، وهو أمر جوهري بوجه خاص بالنسبة للدول الأصغر حجماً أو الدول غير الساحلية في أفريقيا.

رابعاً، بالرغم من تمتع البنك الدولي للإنشاء والتعمير بمستوى جيد للغاية من الرسملة، فإن أنشطته المتعلقة بتقديم القروض آخذة في الانكماش. ويعيش اليوم حوالي 70 في المائة من الفقراء في الهند والصين وباقي البلدان المتوسطة الدخل التي يقدم لها البنك الدولي للإنشاء والتعمير خدماته. وقد طلبت تلك البلدان منا مواصلة مشاركتنا في السعي لإيجاد سبل أفضل لتلبية احتياجاتها المتنوعة. ولذا، ينبغي أن يشهد البنك الدولي للإنشاء والتعمير حالة من النمو وليس الانكماش. وبطبيعة الحال، كما سأتناول لاحقاً بالمناقشة، من الضروري الاستمرار في توسيع نطاق خدماتنا إلى تلك الشريحة من البلدان لتتجاوز مجرد عمليات الإقراض. إلا أن أسعار القروض التي نقدمها، والتي تعكس تعديلات أُدخلت في عام 1998، تُربك البلدان المتعاملة معناً. ومع ذلك، فمازالت قروض البنك الدولي للإنشاء والتعمير ـ ـ مقترنة بأحدث ما في حوزتنا من خبرات مُصممة لتلائم احتياجات العملاء في مجال السياسات ـ ـ ذات قيمة. كما أن مزيج خدمات الإقراض والمعارف الذي نتيحه يكتسي أهمية خاصة في مساعدة البلدان بالنسبة لمشاريع التنمية الاجتماعية وتوسيع إمدادات الطاقة ومرافق البنية الأساسية بها على نحو يتسم بالسلامة البيئية.

ولذلك، وحتى يمكننا تلبية الاحتياجات الكبيرة في البلدان ذات الأسواق الناشئة بصورة أفضل، طلبت من مجلس المديرين التنفيذيين بالبنك تخفيض أسعار الإقراض وتبسيط هيكلها حتى يمكننا توسيع نطاق الإقراض لمساندة عمليتي التنمية والنمو. ومن دواعي سروري أن وافق المجلس على توضيح هيكل الرسوم وتخفيض أسعار الإقراض إلى المستوى السابق للأزمة الآسيوية. ويمكن لتلك الخطوة مساعدتنا على حفز توسيع نطاق الخدمات التي نقدمها. ولكن الطريق مازال طويلاً أمامنا. إذ يجب علينا أيضاً معالجة التكاليف غير المالية المتعلقة بمزاولة أنشطة الأعمال. ونحن نهدف إلى أن نكون الأسرع، والأفضل، والأقل تكلفة.
وتلك الخطوات ليست إلا غيض من فيض؛ فهي تحدد معالم الطريق، من خلال علامات بارزة، نحو أفق آخذ في الاتساع.

عولمة مستدامة لا تستثني أحداً: نهج متعدد الأطراف

يجب ألا تتخلى العولمة عن "بليون القاع"، وهو البليون الأشدّ فقراً من السكان. وهذا القول لا يستند فحسب إلى احترام قيمة إخوتنا من بني البشر، رجالاً ونساءً، بل إنه يتجاوز حقيقة أن أياً منا كان يمكن أن يولد في ظروف مماثلة. إن العولمة التي لا تستثني أحداً تشكل أيضاً مصلحة ذاتية جلية. فالفقر لا يُولد إلا عدم الاستقرار، والمرض، وتدمير الموارد المشتركة، والبيئة. ويمكن أن يُفضي أيضاً إلى مجتمعات محطمة يمكن أن تصبح مرتعاً خصباً لمن يبغي الخراب والدمار، ونقطة انطلاقة لهجرات تُعرض الأرواح للمخاطر.

وقد جاءت العولمة أيضاً بمنافع متفاوتة للبلايين من سكان البلدان المتوسطة الدخل الذين شرعوا في تسلق سلم التنمية منذ نهاية الحرب الباردة. وفي العديد من البلدان والمناطق، فإن التوترات الاجتماعية تؤدي إلى إضعاف التماسك السياسي. فالبلدان المتوسطة الدخل ـ التي تضم 60 في المائة من غابات العالم ـ مسؤولة في الوقت ذاته عن 40 في المائة من انبعاثات ثاني أكسيد الكربون على مستوى العالم من جراء استخدام أنواع الوقود الأحفوري. وستلعب تلك البلدان ـ إلى جانب البلدان المتقدمة التي تنتج معظم الانبعاثات ـ دوراً أساسياً في صياغة نهج عالمي لمعالجة تغيّر المناخ. ولابد أن تواصل البلدان المتوسطة الدخل مسيرة النمو بها، والعمل على توفير تنمية لا تستثني أحداً من مواطنيها، واعتماد سياسات بيئية لتحقيق ازدهار قابل للاستمرار.

ويطرح التأثير الأكبر للبلدان النامية سؤالاً آخر: كيف ستكون مكانتها في هذا النظام العالمي الآخذ في التطور؟ وهذا السؤال لا يدور فحسب حول كيف ستتعامل البلدان النامية الكبيرة مع البلدان المتقدمة، بل كيف ستتعامل مع الدول الأكثر فقراً والأصغر حجماً في هذا العالم. وستكون من سخريات القدر حقاً أن تنسحب مجموعة البنك الدولي من العمل مع البلدان المتوسطة الدخل في وقت تقر فيه حكومات تلك البلدان بمدى الحاجة لزيادة فعالية إدماج بلدانها في المؤسسات المعنية بالعمل الدبلوماسي والأمني والسياسي العالمي: وإذا كان الحال هكذا، فلماذا إذن لا يتم إدماجها كشركاء في المؤسسات المعنية بالاقتصاد المتعدد الأطراف أيضاً؟

قبل عامين اثنين، اقترحت أن تبني الصين على ما حققته من نجاح بأن تصبح "طرفاً فاعلاً مسؤولاً" في النظام الدولي. وبالطبع، فإن ذلك يشكل تحدياً للآخرين أيضاً، إذا كان لنا أن نبني عولمة مستدامة لا تستثني أحداً. ومع هذه المسؤولية، ينبغي أن يكون هناك قدر أكبر من الصوت المسموع والتمثيل. إننا في حاجة إلى النهوض بهذه الأجندة لتدعيم مشاركة البلدان النامية عبر مختلف أنشطة مجموعة البنك الدولي وقوة العمل بها.

وتواجه البلدان المتقدمة أيضاً فرصاً وضغوطاً نتيجة للعولمة. ويشعر الناس بالقلق من معدل التغيير الحالي، بالرغم من تأقلم الكثير من الأجيال الشابة مع هذا التغيّر بدرجة مذهلة من المرونة.

إن حسن التقدير والتصرف يهدي عموم الجمهور في البلدان المتقدمة إلى إدراك أن اللجوء إلى العزلة ليس بالسبيل القويم. وتقودهم الكياسة ـ فضلاً عن المصلحة الذاتية ـ إلى إدراك أهمية الترابط، حتى وهم يتجادلون حول أفضل السبل اللازمة لاعتماده.

وبالمقارنة مع حجم تلك التحديات العالمية، فإن مجموعة البنك الدولي لا تعدو أن تكون سوى مؤسسة متواضعة. إلا أنه يتعين عليها، عند النظر إليها وإلى شركائها المتعددي الأطراف ـ من قبيل الأمم المتحدة ووكالاتها المتخصصة، وصندوق النقد الدولي، ومنظمة التجارة العالمية، وبنوك التنمية الإقليمية ـ أن تلعب دوراً مهمّاً في دفع مسيرة العولمة المستدامة التي لا تستثني أحداً. لقد واجهت المؤسسات المتعددة الأطراف، ومازالت، تحديات وضغوطاً على مدى تاريخها. وهي الآن في أمسّ الحاجة إلى أن تقرن ما تقوم به من مداولات ومشاورات بتحقيق نتائج فعالة على أرض الواقع. وعلى تلك المؤسسات أن تتغلب على أوجه الضعف الداخلية، والبناء على نقاط القوة التي تتمتع بها. ويتعين عليها كذلك، من خلال تكاتفها معاً، أن تبرهن على أن تعددية الأطراف يمكن أن تعمل بفعالية أكبر ـ ليس فقط في قاعات المؤتمرات وثنايا البيانات الختامية ـ ولكن أيضاً في القرى والمدن الآخذة في النمو، لصالح من هم في أمسّ الحاجة إلى المساعدة.

ولابد أن تعمل المؤسسات العالمية على تعزيز العولمة المستدامة التي لا تستثني أحداً. إن مجموعة البنك الدولي تملك موارد مالية ضخمة؛ وجهاز موظفين متمرسين من ذوي الخبرة والمعرفة يتصفون بالتفاني في العمل؛ وقوة على جمع الأطراف معاً؛ وموظفين في أكثر من 100 بلدٍ؛ بالإضافة إلى 185 بلداً عضواً. ويمكن لها، في أحسن أحوالها، تعبئة موارد أخرى ـ عامة وخاصة، مالية وبشرية ـ لإحداث آثار توضيحية وتوليد تأثيرات متضاعفة. وعندما يحالفها النجاح، فإن مجموعة البنك الدولي تكون عاملاً مُحفّزاً لديناميكية الأسواق التي تغتنم فرص العولمة بصورة مستدامة لا تستثني أحداً.

ستة محاور تركيز إستراتيجية

ما هي، إذن، التوجهات الإستراتيجية التي ينبغي أن تتبعها مجموعة البنك الدولي؟

سألقي الضوء اليوم بإيجاز على ستة محاور تركيز إستراتيجية دعماً للهدف المتعلق ببناء عولمة مستدامة لا تستثني أحداً. بعد أسبوع من اليوم، سنعقد الاجتماع السنوي لمجموعة البنك الدولي وصندوق النقد الدولي. ويحدوني الأمل، في تلك المناسبة، أن أناقش محاور التركيز الستة تلك بمزيد من التفصيل مع محافظي البنك، وكذلك مع الأوساط الأوسع نطاقاً للأطراف المعنية، بما في ذلك منظمات المجتمع المدني، ومؤسسات الأعمال، ومؤسسات العمل الخيري.

أولاً، إن مجموعة البنك الدولي تواجه التحدي المتعلق بتقديم المساعدة في القضاء على الفقر وتحفيز النمو المستدام في أشدّ بلدان العالم فقراً، ولاسيما في أفريقيا. وتمثل المؤسسة الدولية للتنمية أداة التمويل الرئيسية لمجموعة البنك لمساعدة البلدان الأكثر فقراً البالغ عددها 81 بلداً.

وفي تلك البلدان، ينبغي علينا ـ إلى جانب شركائنا ـ تكثيف تركيزنا على تحقيق الأهداف الإنمائية للألفية الجديدة. فتلك الاحتياجات الأساسية سترسي الأسس الضرورية للمستقبل.

إلا أن الرسالة التي استخلصتها عندما سافرت إلى أفريقيا في يونيو/حزيران وإلى آسيا في أغسطس/آب من هذا العام مفادها أن الأهداف الإنمائية الاجتماعية ضرورية، ولكنها ليست كافية. أما الأخبار السارة فهي أن 17 بلداً أفريقياً، تضم 36 في المائة من سكان تلك المنطقة، حققت متوسط نمو سنوي نسبته 5.5 في المائة خلال فترة السنوات 1995-2005. وترغب تلك البلدان في الحصول على المساعدة لبناء مرافق ومقومات بنيتها الأساسية لزيادة النمو المتحقق ـ ولاسيما في قطاع الطاقة والمنشآت والهياكل المادية التي يمكنها دعم الاندماج الإقليمي. وهي تريد منا أيضاً مد يد المساعدة لتنمية الأسواق المالية المحلية، ويشمل ذلك قطاع التمويل الأصغر الذي يمكنه تعبئة مدخرات الأفارقة من أجل تحقيق النمو في تلك المنطقة.

ويرى القادة الأفارقة إمكانات هائلة في توسيع نطاق الزراعة، ولاسيما من خلال تعزيز نمو الإنتاجية. وستبرز مطبوعة "تقرير عن التنمية في العالم"، وهي حالياً قيد الإصدار، التي تصدرها مجموعة البنك الدولي أن نمو إجمالي الناتج المحلي الناشئ عن قطاع الزراعة يعود بالنفع على الشرائح الأشدّ فقراً بواقع أربعة أمثال مقارنة بالنمو الناشئ عن القطاعات غير الزراعية. إننا في حاجة إلى إشعال ثورة خضراء في القرن الحادي والعشرين تستهدف تلبية الاحتياجات الخاصة والمتباينة في أفريقيا، على أن تنشأ نتيجة لزيادة الاستثمارات في مجالات البحوث التكنولوجية وتعميم استخدامات التكنولوجيات، والإدارة المستدامة للأراضي، وسلاسل التوريد الزراعية، والري، والائتمان الأصغر في المناطق الريفية، والسياسات التي تقوي الفرص التي تتيحها الأسواق، في الوقت الذي تتم فيه المساعدة على مواجهة انعدام الأمن الغذائي والتعرض للمخاطر في المناطق الريفية. كما يتعين على المزيد من البلدان فتح أسواقها أمام الصادرات الزراعية.

وهناك 8 بلدان أفريقية أخرى، تضم 29 في المائة من سكان تلك المنطقة، حققت متوسط نمو سنوي نسبته 7.4 في المائة خلال فترة السنوات 1995-2005 بسبب مواردها النفطية. وبالنسبة لتلك الدول وبعض بلدان المؤسسة الدولية للتنمية في مناطق أخرى، فإن التحدي الإنمائي الذي يحتل الأولوية يتمثل في تشجيع سياسات الحكم الرشيد ومكافحة الفساد، بالإضافة إلى توسيع قدرات القطاع العام المحلي، لضمان أن تبني إيرادات الموارد مستقبلاً مستداماً لجميع المواطنين.

ثانياً، ينبغي علينا معالجة المشاكل الخاصة المتعلقة بالدول الخارجة من الصراعات أو التي تسعى إلى تجنب تفككها وانهيارها.

عندما وضع أصحاب الرؤى من المؤسسين الأوائل في بريتون وودز تصوراً للبنك الدولي للإنشاء والتعمير (IBRD) قبل 60 عاماً، فإن حرف "R" وهو الحرف الأول من كلمة Reconstruction كان يُقصد منه في الأساس إعادة بناء وتعمير كل من أوروبا واليابان. أما اليوم، فإن هذا الحرف يوجهنا نحو التحدي المتعلق بإعادة البناء والتعمير في الدول المتضررة من الصراعات الحديثة.

وفي كتابه الصادر بعنوان "بليون القاع" "The Bottom Billion"، كتب Paul Collier يقول إن 73 في المائة من هذا البليون يعيشون في بلدان اكتوت بنيران الحروب الأهلية. وإن من دواعي الأسى والأسف أن تلك الصراعات لم تؤد فقط إلى معاناة غير عادية للشعوب المنخرطة مباشرة فيها، ولكن لهيب الآثار غير المباشرة لتلك الحروب امتد لتكتوي بألسنته البلدان المجاورة أيضاً.

وبصراحة، فإن فهمنا لكيفية التعامل مع تلك الحالات والقضايا المدمرة كان متواضعاً في أحسن الأحوال. ويخامرني شعور بأننا سنحتاج إلى اعتماد نهج أكثر تكاملاً يضم كلاً من الأمن، والأطر السياسية، وإعادة بناء القدرات والطاقات المحلية عن طريق الدفع بمساندة سريعة، وإعادة إدماج اللاجئين، وتقديم مساعدات إنمائية أكثر مرونة. إن العمل البّناء لمجموعة البنك الدولي في كل من البوسنة ورواندا وموزامبيق يُظهر ما يمكن القيام به. وقد ثبت أن لقدرة المؤسسة الدولية للتنمية على التكيف وسرعة صرفها للموارد التمويلية أهمية حيوية في بيئات ما بعد انتهاء حالات الصراع، ونحن نعمل حالياً مع المانحين على زيادة فعاليتنا.

واليوم، فإننا نعمل على أرض الواقع على سبيل المثال لا الحصر في كل من جنوب السودان وليبريا وسيراليون وجمهورية الكونغو الديمقراطية وبوروندي وساحل العاجل وأنغولا وتيمور الشرقية وبابوا غينيا الجديدة والدول الجزيرية في المحيط الهادئ وأفغانستان وهايتي، وذلك من خلال صناديق استئمانية أنشأها المانحون، وبالاشتراك مع الأمم المتحدة. وإذا ما تم التوصل إلى اتفاق سلام فعال ومؤثر في دارفور، مدعوماً بقوة أمن تابعة للأمم المتحدة والاتحاد الأفريقي، فإن مجموعة البنك الدولي سترغب في مد يد العون والمساعدة.

ثالثاً، تحتاج مجموعة البنك الدولي إلى اعتماد نموذج أعمال أكثر تمايزاً من أجل البلدان المتوسطة الدخل. فتلك البلدان مازالت تواجه تحديات تنموية كبيرة. ومازالت الخدمات الاجتماعية ومرافق البنية الأساسية الحيوية تعاني نقصاً في التمويل. وفي حالات كثيرة، فإن النمو الاقتصادي السريع قد أخفق في إتاحة الفرص للفقراء. وثمة مشاكل بيئية حادة. ومازال هناك احتمال مستمر بحدوث تقلبات في تدفقات رؤوس الأموال إلى تلك البلدان ـ على النحو الذي شهدناه خلال عِقدي الثمانينيات والتسعينيات من القرن العشرين.

وإدراكاً منها لتلك التحديات، فإن البلدان المتوسطة الدخل الأعضاء تريد من مجموعة البنك الدولي مواصلة مشاركتها وعملها معها من خلال إتاحة قائمة تنافسية من "الحلول الإنمائية". لكن ينبغي أن تعكس تلك المشاركة تحقق تحسينات رئيسية في مراكزها المالية وقدراتها المؤسسية على مدى العِقد الأخير من السنين. فهي تريد من البنك الدولي للإنشاء والتعمير، على سبيل المثال، أن يقدم خدمات مصرفية أكثر مرونة وذات أسعار أفضل، مع قدر أقل من الإجراءات البيروقراطية، وتخفيض الأوقات اللازمة لمعالجة المعاملات. وهي تتطلع إلى مؤسسة التمويل الدولية لمساعدتها على وضع حلول للقطاع الخاص بالنسبة للأسواق غير المتطورة، وحتى بالنسبة للاحتياجات الاجتماعية. وهي تتوقع منا أن نتحلى بأعلى معايير الجودة النوعية، والاتساق، وفعالية التكاليف في خدماتنا الاستشارية. ومجمل القول إن تلك البلدان تريد منا أداءً جيداً، وهذا بالضبط ما نعتزم القيام به.

وبالنسبة للبعض من البلدان المتوسطة الدخل، فإن خدماتنا ستتركز بصورة مطردة في مجالات إدارة المخاطر، وتطبيق المعارف العالمية على الاحتياجات المحلية. كما يمكننا إتاحة أدوات للتعزيز الائتماني، وتغطية المخاطر، وخبرات محايدة من شأنها المساعدة على بناء قدرات إدارة الأصول. ويمكننا تشجيع أسواق الأوراق المالية المحلية من خلال المساعدة في إنشاء صناديق ومؤشرات السندات المُقوّمة بالعملات المحلية. ونستطيع كذلك تقديم التمويل بالعملات المحلية للمساعدة في الجمع بين ما نقدمه من قروض وإدارة مخاطر تقلب أسعار العملات. ولتشجيع تحقيق نمو لا يستثني أحداً داخل البلدان، يمكننا العمل مع الأجهزة والسلطات دون الوطنية. ونحن الآن بصدد إعداد أدوات مالية عرضية للمساعدة في توفير الاحتياجات الطارئة من السيولة أثناء أوقات الصدمات المالية، وتسهيلات أسواق التأمين بغرض توسيع نطاق إتاحتها، وتخفيض تكلفة التغطية بالنسبة للكوارث الطبيعية، كالأعاصير والزلازل. وقد تقودنا بعض تلك الأنشطة إلى استكشاف سبل أفضل لتقديم الخدمات والمعارف مقابل رسوم، وإتاحة خيار تقديمها مقروناً بالتمويل أو بدونه إلى البلدان المتعاملة معنا.

رابعاً، سيتعين على مجموعة البنك الدولي لعب دور أكثر نشاطاً في تشجيع سلع النفع العام الإقليمية والعالمية التي تتجاوز الحدود الوطنية، وتعود بالنفع على العديد من البلدان والمواطنين. ونطمح في هذا الشأن إلى ضمان ربط تلك الأجندة بأهداف التنمية.

وقد برهنت مجموعة البنك الدولي بالفعل على قدرتها في المساعدة على التصدي للأمراض المعدية من خلال العمل بشأن مكافحة فيروس ومرض الإيدز، والملاريا، وإنفلونزا الطيور، وتطوير الأمصال واللقاحات. ونحن الآن في خضم إعادة النظر في سبل تدعيم العلاقة بين المعونة والتجارة، ويشمل ذلك ما نقوم به من خلال المشروع الابتكاري لتمويل التجارة التابع لمؤسسة التمويل الدولية، الذي يركز في الأساس على أفريقيا، والذي استطاع خلال عامين مساندة نحو بليوني دولار أمريكي من التبادل التجاري.

ونعمل حالياً مع مجلس المديرين التنفيذيين التابع للبنك لزيادة المساعدة التي نقدمها زيادة كبيرة إلى الجهود الدولية التي تتصدى لمشكلة تغيّر المناخ. وفي اجتماعنا السنوي المقبل، وفي مؤتمر الأمم المتحدة في بالي المعني بتغير المناخ في ديسمبر/كانون الأول من هذا العام، فإنني آمل أن أحدد الخطوط العريضة لمجموعة من الوسائل والسبل التي يمكن لمجموعة البنك الدولي من خلالها المساعدة على الدمج بين احتياجات التنمية والنمو المنخفض الكربون. ولابد أن نركز على وجه الخصوص على مصالح البلدان النامية، حتى يمكننا التصدي للتحدي المتعلق بتغيّر المناخ دون إبطاء وتيرة النمو الذي يساعد بدوره في القضاء على الفقر.

وسيقتضي عملنا بشأن سلع النفع العام الإقليمية والعالمية توثيق أواصر التعاون مع الوكالات الأخرى التي تتمتع بخبرات متخصصة، من قبيل: منظمة الصحة العالمية، وبرنامج الأمم المتحدة للبيئة، ومكتب الأمم المتحدة المعني بالمخدرات والجريمة، ومنظمة التجارة العالمية. وينبغي علينا أيضاً أن نحدد الميزة النسبية لمجموعة البنك الدولي حتى نتمكن من تحسين تركيز مواردنا من خلال اعتماد نُهُج انتقائية ومتميزة. وفي ضوء تخصصنا في العمل بشأن قضايا التنمية على المستوى القطري، فإن أهمّ تحدٍ يواجهنا على صعيد العمليات سيتمثل في مساندة البلدان في الوقت الذي تقوم فيه بتحديد ما هي أفضل وسيلة لإدماج السياسات المتعلقة بسلع النفع العام ـ والفرص الإقليمية والعالمية ـ في برامجها الوطنية. ولابد أيضاً وأن تستند تلك الفرص إلى طاقات القطاع الخاص، وأصحاب مشاريع العمل الحر به.

خامساً، أحد أبرز التحديات في وقتنا الحالي هو كيفية مساندة البلدان الساعية إلى النهوض بالتنمية وإتاحة الفرص في العالم العربي. ففي الماضي، كانت تلك البلدان تقع في قلب التجارة والتعلم، وهو ما يشير إلى وجود إمكانات وقدرات يمكن الاستفادة منها إذا ما استطاعت تجاوز المنازعات والحواجز التي تعوق النمو والتنمية الاجتماعية. وبدون تحقيق نمو عريض القاعدة، فإن تلك البلدان ستعاني من توترات اجتماعية، وستواجه تحديات تتعلق بأعداد كبيرة من الشباب والشابات الذين لا يستطيعون العثور على فرص عمل. وتتيح تقارير التنمية الإنسانية العربية التي تصدرها الأمم المتحدة تقييمات ذاتية قوية في هذا الشأن.

عندما كنت أشغل منصب الممثل التجاري للولايات المتحدة، عملت عن كثب مع قادة من بلدان منطقة المغرب العربي وحتى الدول العربية في منطقة الخليج الذين كانوا بصدد فتح اقتصاداتها ومجتمعاتها. وبالرغم من أن بعضها تمتع بوفرة في موارد الطاقة ورؤوس الأموال، فقد كان نشاطها الاقتصادي يفتقر إلى التنوع، وإلى القدرة على خلق فرص العمل. في حين كانت هناك بلدان أخرى تسعى إلى تحسين مدارسها، وتدعيم اعتماد التكنولوجيا، وزيادة فرص العمل المتاحة من خلال تخفيف القيود التنظيمية لممارسة أنشطة الأعمال والتجارة. وسعى عدد منها إلى تعميق الصلات الإنتاجية مع آسيا من خلال الاستثمارات المشتركة، والتجارة، ونمو مراكز الخدمات.

ويُظهر تقرير "ممارسة أنشطة الأعمال 2008" الذي أصدرته مؤخراً مجموعة البنك الدولي تحقيق تقدم في تلك المنطقة. حيث حلت مصر هذا العام في قمة قائمة البلدان المتصدرة لإصلاحات القوانين واللوائح التنظيمية بغرض تسهيل إجراءات ممارسة أنشطة الأعمال التجارية. وقامت المملكة العربية السعودية بإزالة طبقات البيروقراطية التي كانت تجعلها في السابق ضمن أصعب الأماكن في العالم من حيث تأسيس منشآت الأعمال وبدء النشاط التجاري، كما أنها ألغت شروط الحد الأدنى لرأس المال اللازم لذلك.

وهذه التطورات مُشجعة، ولكن مازال الطريق طويلاً في هذا الشأن. وينبغي أن تعود العولمة التي لا تستثني أحداً بالنفع على الجميع في تلك الدول. وبينما تسعى حكومات البلدان العربية إلى توفير الخدمات الاجتماعية بفعالية إلى جميع مواطنيها، يمكننا إتاحة خبراتنا وتجاربنا مع البلدان الأخرى في هذا المجال. كما يمكننا المساعدة في تهيئة بيئات ملائمة لممارسة أنشطة الأعمال التجارية ـ سواء المحلية أو الأجنبية. وقد نتمكن ـ بالنسبة لبعض منها ـ من تمويل مشاريع التنمية، وتشغيل الصناديق الاستئمانية للمانحين، أو حفز توسيع نطاق خدمات القطاع الخاص من خلال مؤسسة التمويل الدولية. ونقوم اليوم بمد يد العون والمساعدة على تقديم الخدمات الاجتماعية الأساسية والمساندة لترسيخ أسس الحكم الرشيد ونمو القطاع الخاص في الأراضي الفلسطينية، وهو ما يمكن أن يوفر الأساس الاقتصادي لتوطيد الأمل، وذلك إذا ما اختار الطرفان المضي قدماً في طريق السلام.

وأخيراً، بينما تملك مجموعة البنك الدولي بعضاً من سمات العمل المالي والإنمائي، فإن طموحها أوسع من ذلك بكثير. إنها مؤسسة فريدة وخاصة معنية بالمعرفة والتعلم. فهي تضطلع بجمع بيانات قيمّة وتتيحها للآخرين. لكنها ليست جامعة دراسية ـ بل هي "هيئة خبراء" تضم خبرات تطبيقية من شأنها مساعدتنا على معالجة محاور التركيز الإستراتيجية الخمسة الأخرى.

وتستلزم قدرة كهذه اهتماماً وإعالة خاصين. ولكن، ينبغي علينا أيضاً أن نحفز أنفسنا ونتحداها دوماً من خلال طرح السؤال التالي: ما هو المطلوب لتحقيق تنمية ونمو مستدامين ولا يستثنيان أحداً؟

إن هذا التحدي يستلزم منا الشعور بالتواضع ـ والأمانة الفكرية. لقد أخفق الكثير من برامج وأحلام التنمية. لكن ذلك ليس بسبب وجيه كي نكف عن المحاولة. بل إنه مُوجِب للتركيز باستمرار وبقوة على النتائج، وعلى تقييم الفعالية. وهذه هي أفضل وسيلة لاكتساب ثقة ودعم البلدان المساهمة والمتعاملة مع مجموعة البنك، والأطراف المعنية من أصحاب المصلحة، وشركاء التنمية.

إن محاور التركيز الإستراتيجية الستة السالفة الذكر تتيح لنا توجهاً ـ ينبغي إخضاعه للمناقشة والتنقيح والتحسين. وحتى تؤتي تلك الأفكار أُكلها وثمارها، علينا أن نفهم الاحتياجات الخاصة بالبلدان والجهات المتعاملة معنا. ونحن نرحب بكل ما تبديه البلدان المساهمة من توجيه ونصح ومشورة. وثمة حاجة كبيرة ـ وفرصة ملحة ـ لمجموعة البنك الدولي في هذا المنعطف التاريخي.

التحديات الداخلية: نظام الإدارة الجيد ومكافحة الفساد

ولكي تحقق النجاح، ينبغي على مجموعة البنك الدولي أيضاً أن تواجه بثبات تحدياتها الداخلية. إذ يتعين علينا استخدام رأس مالنا بقدر أكبر من الفعالية، وزيادة التركيز على خدمة البلدان المتعاملة معنا. وعلينا تدعيم علاقاتنا مع منظمات المجتمع المدني والمنظمات غير الحكومية حتى يمكننا التعلم منهم. وحتى نعكس "هيكل المعونات" الجديدة، علينا العمل بمزيد من الفعالية مع برامج المعونات الوطنية، والصناديق التي تركز على مشاريع بعينها، كمشاريع مكافحة أمراض محددة، ومؤسسات العمل الخيري، والمنظمات غير الحكومية في الميدان، ومؤسسات الأعمال الخاصة المهتمة بالتحديات الإنمائية.

وينبغي علينا مساعدة جهاز الموظفين من خلال تحسين تطورهم المهني، وتحسين تنقلهم الوظيفي داخل إدارات ووحدات المؤسسة. كما نحتاج إلى زيادة تقوية سياسات الموارد البشرية لمساندة جهاز موظفينا في الميدان بينما نعمل على تشجيع زيادة تحقيق اللامركزية. وبالإضافة إلى ذلك، يتعين علينا زيادة الصوت المسموع والتمثيل في مجلس المديرين التنفيذيين، وتحسين مستوى التنوع في قوة العمل بالبنك.

وكما أكد تقرير صدر مؤخراً لفريق متمرس بقيادة بول فولكر، الذي شغل في السابق منصب رئيس مجلس الاحتياطي الاتحادي بالولايات المتحدة الأمريكية، فإن أمامنا عمل ينبغي القيام به في إطار تدعيم نهجنا في التعامل مع نظام الإدارة ومكافحة الفساد داخل مجموعة البنك الدولي. وقدّم هذا الفريق لنا مجموعة واسعة من التوصيات ينبغي علينا إمعان النظر فيها لتدعيم عمل المحققين داخل البنك، والتأكد من وضع النتائج والتوصيات التي يخلصون إليها موضع التنفيذ المُحكم. ونتابع تلك التوصيات بصورة فورية، مرحبين في هذا السياق بآراء الآخرين، كما نناقش الأفكار المطروحة مع مجلس المديرين التنفيذيين، ونمضي قدماً نحو إدخال تحسينات في عملياتنا.

ومن واقع تجربتي الشخصية، فإن الموظفين في مجموعة البنك الدولي يدركون جيداً أهمية أجندة نظام الإدارة ومكافحة الفساد. وهم يتيهون فخراً بالرسالة الإنمائية التي يعملون من أجلها، ويريدون تعزيز نزاهة مؤسستهم، ويعرفون أن الفقراء والضعفاء ممن لا حول لهم ولا قوة هم أشدّ من يكتوي بنار الفساد. ولا شك في أننا سنقوم بعمل أفضل لو أننا تكاتفنا.

ويمكن لمجموعة البنك الدولي كذلك أن تتيح الريادة والقيادة من خلال إدماج السياسات الجيدة لنظام الإدارة وسيادة القانون في أجندة التنمية. وقبل شهر فقط، انضممنا إلى الأمم المتحدة في تدشين مبادرة استرداد الأصول المسروقة (StAR) حتى يمكن للبلدان المتقدمة والنامية العمل معاً لاسترداد الأصول المالية المنهوبة بسبب أعمال الفساد. ويوضح تقريرنا الناجح الصادر بعنوان "ممارسة أنشطة الأعمال" أن ضعف اللوائح التنظيمية وسياسات استخراج التراخيص لا يؤدي فقط إلى تثبيط أصحاب المشاريع الحرة، ولكن أيضاً إلى خلق الفرص لطلب الرشوة وممارسة الابتزاز المالي.

الخلاصة: صوتان آخران

لقد طرحت اليوم فهمي للتوجه العام لمجموعة البنك الدولي. ولكننا حتى نفهم بحق طبيعة ما نحن بصدده، اسمحوا لي أن اختتم حديثي بإتاحة المجال لصوت اثنتين ممن عادت مشاريع البنك عليهما بالنفع.

الصوت الأول هو لديراما، وهي عضوة بإحدى مجموعات المساعدة الذاتية القروية في ولاية أندرا براديش في الهند. وهي واحدة من بين أكثر من 8 ملايين امرأة أقمن، بمساندة من البنك الدولي، مجموعات للمساعدة الذاتية لتجميع الموارد. وقد أدت خدمات الوساطة والمساندة الأولية التي تقدمها تلك المجموعات إلى زيادة مستويات الدخل لما يقرب من 90 في المائة من الأسر الريفية ـ أي ما يشكل نحو 40 مليون شخص. وقالت ديراما لنا، "إنهن كن يعشن بالكاد على حد الكفاف. أما الآن، فقد أصبحن يعتمدن على أنفسهن، ويمكنهن تعليم أبنائهن. ولدينا الآن الثقة في أن بوسعنا الخلاص من براثن الفقر".

أما الصوت الثاني فكان لدينالفا مورا، وهي أم لثلاثة أطفال، وشاركت في برنامج Bolsa Familia في البرازيل، الذي يقدم مبالغ صغيرة من المال إلى الآباء في 11 مليون أسرة تبقي أبنائها وبناتها في المدارس، وتأخذهم بصفة دورية لإجراء فحوصات صحية عليهم. وتتيح مجموعة البنك المساعدة المالية والفنية لمساندة تلك المبادرة المثيرة للإعجاب للحكومة البرازيلية. قالت لنا دينالفا، " إن برنامج Bolsa Familia يساعدني على شراء الطعام لأطفالي، وأحياناً شراء بعض الفاكهة. ولا يتهرب أطفالي من المدرسة، إذ يعرفون أن الأموال التي نحصل عليها مشروطة بذهابهم إلى المدارس".

وأصوات من هذا القبيل هي التي تخبرنا بواقع الجهود اليومية الرامية إلى توفير إمكانيات جديدة من أجل الفقراء. إنها تردد الحاجة الماسة والملحة لوجود مجموعة البنك الدولي المتسمة بالديناميكية التي تربط بينهما وبين الآخرين والأفكار والفرص. وهذا ما نعنيه بالعولمة المستدامة التي لا تستثني أحداً.


 

 

Api
Api

أهلا بك