خطب ونصوص

تحقيق النتائج في التنمية: حشد طاقات المعرفة لبناء الرخاء وإنهاء الفقر

10/08/2012

رئيس مجموعة البنك الدولي جيم يونغ كيم سيول, جمهورية كوريا الديمقراطية الشعبية

بالصيغة المعدة للإلقاء

أشكركم شكرا جزيلا السيدات والسادة، الضيوف الأفاضل، الزملاء والأصدقاء على إتاحة هذه الفرصة كي أتحدث أمامكم اليوم. أسمحوا لي أن أعلق تعليقا سريعا في البداية. في الصف الأول في هذه القاعة تجلس والدتي التي تبلغ 79 عاما. وهي هنا اليوم لتلقي كلمة تدور حول تجربتها الطويلة في دراسة تويغي Toegye الذي يُعرف أيضا باسم كيي هوانغ Yi Hwang ، وهو أحد الفلاسفة العظام في التاريخ الكوري. أود أن اغتنم هذه الفرصة كي أشكرها على منحي منذ الصغر الرغبة في التعلم، وبصراحة في السعي المستمر لتوسيع نطاق المعرفة. وسنواصل العمل لتحقيق ذلك لأننا نعلم أن المعرفة يمكنها جعل العالم مكانا أفضل.

اسمحوا لي أن أشكر الدكتور تشانغ داي- وان ثانية لتفضله بتقديمي ودعوتي للتحدث أمام هذا الجمْع الكبير. ودعوني أشكركم جميعا على مساهماتكم في ثلاثة أيام من النقاش والتعلّم. ومن الأمور المشجعة بصفة خاصة أن نرى هذا الحضور القوي للقطاع الخاص الكوري الذي حققت واقعيته العملية وقدرته على التكيّف الكثير والكثير لتعزيز التقدم في هذا البلد.

إن الحديث أمام هذه الكوكبة من القادة في أي مكانٍ في العالم يستثير الهمم ويستنهض العزائم. لكن ما أعظم أن نكون هنا في سيول: المدينة التي ولدت فيها؛ عاصمة بلدٍ نهض في 50 عاماً من براثن الفقر والصراع ليصبح واحدا من أكثر مجتمعات العالم رخاء وتقدما في التكنولوجيا. كوريا تُعلّمُنا أن التنمية ممكنة حتى في أحلك الظروف وأشد الصعوبات. وهذا الدرس أكثر أهمية اليوم من ذي قبل.

يحثنا محور تركيز المنتدى لهذا العام على إدراك حجم التحديات العالمية الراهنة واقتراح حلول جريئة في المقام الأول. كما أنه يذكرنا بأن العمل الجريء لابد أن يسترشد بالمعرفة.

لكن ما نوع المعرفة التي نحتاج إليها؟

إننا إذ نلتقي في عاصمة هذه القوة الاقتصادية والتكنولوجية الفتيّة، فإننا ندرك أن العالم ماضٍ في التغيّر. ولابد أيضا أن تتغير طريقة تفكيرنا عن المعرفة في مجال التنمية.

قبل 60 عاما، عندما كانت كوريا بلدا فقيرا، كان البنك الدولي حديث العهد، واعتقد الناس حينئذ أن القوة والخبرة التخصصية في التنمية لا يمكن أن تتدفق إلا في اتجاه واحد: من الشمال إلى الجنوب.

لقد اختفى هذا النموذج النمطي إلى الأبد. ويُبين هذا المنتدى والمدينة العظيمة التي تحتضنه أننا نعيش في عالمٍ متعدد الأقطاب. فالقوة والمعرفة تنبعان من مصادر جديدة وتتحركان في مسارات جديدة. وتشكل الاقتصادات الصاعدة الآن أكثر من نصف النمو الاقتصادي في العالم.

والبيئة العالمية آخذة في التغير بطرقٍ أخرى. فحركات - مثل الربيع العربي، وحركة "الغاضبون" الإسبانية، واحتلوا وول ستريت، والاحتجاجات الاجتماعية في الكثير من البلدان - تعكس طلب الناس على المشاركة والحصول على نصيب عادل من منافع الرخاء. تذكرنا هذه الحركات بأن جوانب انعدام المساواة والتفاوت الحاد في الثروة والقوة لا يمكن أن تدوم. وفي عالم يموج بالمواطنين المستنيرين والمتمتعين بأسباب القوة، لا يمكن أن تكون الإستراتيجيات الاقتصادية بمعزل عن المطالبات بالعدالة الاجتماعية.

لا تستطيع الحكومات وشركاؤها الهروب من مواجهة هذه التحديات باللجوء إلى "العبارات الخطابية الرنانة". لقد بات لزاما علينا أن نحقق النتائج.

ولن نقطع في ظل مناهج التنمية الحالية إلا شوطا جزئيا على هذا الطريق. في مطلع الألفية، قاد الدكتور تشانغ وآخرون في هذه القاعة عملية تحوّل الاقتصاد الكوري من خلال وضع المعرفة في صميم هذه العملية وجوهرها على نحو مدروس. أعتقد أننا نحتاج اليوم إلى تحوّل تطوري مماثل في كيفية قيام البلدان والمجتمعات المحلية وشركائها بحشد طاقات المعرفة من أجل التنمية.

يجب علينا أن نضع في قلب هذا النموذج الإنمائي الأساس لنوعٍ جديد من المعرفة، يُطلق عليه البعض مسمى "علم تحقيق النتائج"، لتستخدمه البلدان في تلبية طلبات واحتياجات شعوبها.

لكلمتي اليوم ثلاثة أهداف: أولا توضيح أسباب احتياجنا إلى علم تحقيق النتائج في مجال التنمية؛ وثانيا مناقشة بعض الخصائص المميزة للمعرفة في هذا المجال التي ستؤثر على كيفية تشكيل ملامحه؛ وثالثا وصف الخطوات الملموسة التي ستتخذها مجموعة البنك الدولي لتعزيز عملها مع البلدان في هذا المجال وخلق الأسس لعلم تحقيق النتائج الشامل في المستقبل.

عندما أتحدث مع القادة السياسيين والشركاء في البلدان في مختلف أنحاء العالم، أسمع رسالة متكررة.

يعرف معظمُ البلدان الاتجاهات العريضة الواجب تبنيها على صعيد السياسات لتقليص الفقر وبناء الرخاء. ولدى بلدان كثيرة سياسات وبرامج إنمائية قوية ومتماسكة من الناحية النظرية. لكن هذه البلدان لا تحصل على ما تريده من نتائج. في بلد تلو الآخر، وقطاع تِلو آخر، يكمن التحدي الأكبر في تحقيق النتائج.

"تحقيق النتائج" هي عبارة رائعة لتقديم السلع والخدمات إلى الناس بطريقة تلبي توقعاتهم. تتسم الشركات الخاصة ذات الأداء الرفيع بالتفوق والتميّز في تحقيق النتائج. علما بأن هذا الأمر ضروري في القطاع العام أيضا في سياق العقد الاجتماعي بين الحكومة والمواطنين. ولم يحدث من قبل أن فهمنا مدى الأهمية البالغة لتحقيق النتائج لعملية التنمية. وتتضمن أولويات تحقيق النتائج في مجال التنمية البنية التحتية المادية كالطرق وشبكات الكهرباء وأنظمة المياه. كما تشمل أيضا خدمات مثل التعليم والرعاية الصحية والحماية الاجتماعية. ويوجد، عبر آفاق هذه المجالات جميعا، تأخر في تحقيق النتائج في العديد من البلدان والمجتمعات المحلية حيثما تشتد الحاجة وتتعاظم الاحتياجات.

من أجل تحسين نواتج التنمية، لابد أن نتصدى مباشرة للتحديات التي تقف حجر عثرة أمام تحقيق النتائج. وهذا هو المجال الجديد التالي لعمل مجموعة البنك الدولي. وهو ببساطة شديدة نفس ما يطلبه الناس.

يمكنُنا أن نشير إلى أمثلة فردية لنجاح تحقيق النتائج في بلدان من كافة مستويات الدخل. ولكننا نحتاج إلى الانتقال من الأمثلة الفردية المنعزلة إلى تحقيق تقدم عالمي عريض عبر جميع البلدان وكافة قطاعات التنمية.

ولتحقيق ذلك، لابد أن نعمل معا لإرساء الأسس اللازمة لمجال جديد يقوم بجمع ونشر المعرفة العملية التي يمكن للبلدان استخدامها في تحقيق النتائج على الوجه الصحيح حسب أوضاع كل منها.

هنالك أيضا حاجة ماسة إلى علم تحقيق النتائج في مجال التنمية، لكن هذا العلم لا يوجد حتى الآن. ويجب علينا أن نُنشئه سويا. وسوف تكون البلدان في موقع الصدارة. وسوف يسهم البنك الدولي والقطاع الخاص والمجتمع المدني والمجتمعات المحلية والشركاء العالميون في التنمية أيضا. وأهيبُ بجميع الحاضرين هنا وبالقادة والمبتكرين من البيئات والبلدان المختلفة أن يغتنموا فرصة بروز هذا التحدي للإسهام بأفكارهم وجهودهم.

أود في سياق متابعتنا لهذه المناقشة توضيح تقسيم العمل بين البلدان ومجموعة البنك الدولي. إن البلدان هي التي ستقدّم البرامج، وما يقدمه الخبراء الممارسون في البنك الدولي هو المساندة المبنية على الأدلة والشواهد والقرائن والمشورة إلى واضعي السياسات الوطنية، والقائمين على تنفيذ البرامج، والشركاء من القطاع الخاص.

وفي هذا السياق، ربما يبدو مفهوم "تحقيق النتائج" و "الفشل في تحقيق النتائج" من المفاهيم المجردة. فدعونا نأخذ دقيقة لتذكير أنفسنا بما تعنيه هذه الأفكار من المنظور الإنساني:

·         بسبب الفشل في تحقيق النتائج، يوجد 1.3 مليار شخص في البلدان النامية لا يحصلون على الكهرباء ومازالوا محرومين فعليا من كل ميزة من مزايا الحياة الحديثة.

·         بسبب الفشل في تحقيق النتائج، يتعرض سنويا أكثر من 280 ألف امرأة للموت أثناء الولادة نتيجة لمضاعفات إنجابية يستطيع الطبّ الحديث علاجها بسهولة.

·         بسبب النجاح في تحقيق النتائج، ارتفعت نسبة الأطفال التنزانيين الذين أتموا الدراسة في المرحلة الابتدائية من 57 في المائة في عام 2000 إلى 90 في المائة في عام 2010، مما يؤدي إلى تحسين حياة ملايين الأطفال وتزويدهم بأدوات لتحقيق مستقبل أكثر رخاء وازدهارا.

من الأخبار السارة أن جوانب التقدم الحديث في الكثير من المجالات قادرة على مساعدتنا في تحسين تحقيق النتائج. فالرؤى الثاقبة ذات العلاقة تنبعث في مجالات تخصصية متنوعة مثل هندسة الأنظمة، والطب، والاقتصاد، والعلوم الاجتماعية الأخرى، وميادين أنشطة العمل في الإستراتيجية والعمليات والإدارة. في مقدور جميع هذه التخصصات أن ترفد المجال الجديد لعلم تحقيق النتائج بالأدلة والقرائن التي سوف تساعد البلدان على تحسين نتائج التنمية.

دعونا لا ننسى أن عملا ممتازا في تحقيق النتائج يتم في الكثير من البيئات معظم الوقت. إذ تقوم الشركات الخاصة في جميع مناطق العالم بتقديم حلول يوميا لتحديات تحقيق النتائج من أجل تلبية احتياجات عملائها. والخدمات العامة المفترض وجودها في أي مركز حضري حديث - مثل شبكات الكهرباء والمياه والنقل - هي أيضا دليل إيضاح يومي على النجاح في تحقيق النتائج.

لا توجد ندرة في المُنفذين ذوي الكفاءة ولا في أنظمة تقديم الخدمات ذات المستوى الرفيع لأداء مهامها ووظائفها. ولكن لتحقيق النتائج طبيعة متناقضة؛ فكلما كان أفضل، كلما أصبح أقل استرعاءً لانتباهنا. وهذا يعني أن الأداء الممتاز في تحقيق النتائج لا يحظى غالبا بالتقدير حتى من جانب المنتفعين منه مُباشرة. إننا لا نقدر حق التقدير مدى تعقيد التحديات وأهمية إنجازات القائمين على التنفيذ. ونتيجة لذلك، لا نبذل جهودا كافية في تحليل النجاح في تحقيق النتائج، وتحصيل المعرفة التي جعلته ممكنا، ونقل الدروس المستفادة من ذلك النجاح في أشكال يمكن أن يستخدمها الآخرون.

تعرفون جميعكم هنا أن العاملين في شركتكم أو مؤسستكم همُ القوى المحركة ومقدمو الحلول للمشكلات، وهم الذين تستدعيهم الشركة لمعالجة الحالات الأشد صعوبة وتعقيدا. والواقع أن الموجودين منكم هنا هم من هؤلاء الأفراد الذين نتحدث عنهم. وإذا سمحتم لي أن أستعير مصطلحا من خلفيتي كطبيب، فإني أود أن أدعوكم أنتم أيها الناس "كبار الأطباء المعالجين". ويمكنُنا ببساطة أن نشير إليكم بالمنفذين المهرة. وهؤلاء المنفذون موجودون في كل مؤسسة ناجحة.

إن أساس النجاح في تحقيق النتائج هو المعرفة الضمنية في رؤوس هؤلاء المُنفذين. فمن طبائع العمل المتسم بالفاعلية أن يصبح هؤلاء مجبولين على هذا الطابع التلقائي في الأداء، وهو ما يمكن أن نسميه "الذاكرة العضلية"، مثل الحركات التي لا يشوبها أدنى تردد لعازف الموسيقى وهو يعزف مقطوعة موسيقية تعلمها في مرانٍ دؤوب لا يعرف الكلل أو الملل.

يكتسب منفذو برامج التنمية العاملون في الخطوط الأمامية هذه "الذاكرة العضلية" خلال مسيرتهم المهنية. فهم يقومون باختبار الحلول وملاحظة النتائج وإجراء التصحيحات ثم الاختبار مرة أخرى. وفي مرورهم بالعديد من حلقات التعلم هذه، تتحول خبراتهم المتراكمة إلى دراية عملية. وفي معظم الحالات التي تحقق فيها البلدان وشركاؤها نواتج إنمائية جيدة، تكون هذه الدراية الضمنية للمنفذين هي في الحقيقة القوة الدافعة إلى ذلك النجاح.

ويكمن التحدي هنا في الانتقال من التفوق والتميز في الأداء الفردي إلى تحسينات عريضة في الجودة النوعية لتحقيق النتائج عبر القطاعات بأكملها.

ولذلك، يجب علينا التحول من دراية الممارسين الفرديين المبنية على التمرس والخبرة إلى مستوى المعرفة التحليلية - أي الارتقاء بها إلى مستوى العلم. يجب علينا أن نقوم بتحليل ومقارنة أداء أعداد كبيرة من القائمين بالتنفيذ. وينبغي ربط خبرات هؤلاء المنفذين وما توصلوا إليه من نتائج بالبيانات السياقية عن الشؤون السياسية والأوضاع الاجتماعية والقدرات القُطرية وغير ذلك من العوامل المؤثرة على محصلات تحقيق النتائج. ويتعين علينا إنشاء آليات فاعلة لتبادل المعرفة في هذا الصدد، حتى يتسنى للمنفذين التعلم المستمر من بعضهم بعضا. كما يجب علينا إنشاء "حلقات إيجابية" للتعلم من أجل أن يستمر الممارسون في اختبار ابتكاراتهم، ورصد النتائج والاستفادة منها تصميم تجارب جديدة. ويمثل كل ذلك خطوات نحو علم تحقيق النتائج.

وإلى أن نتخذ تلك الخطوات، فإن علم "تحقيق النتائج" نفسه يواجه فشلا في تحقيق النتائج، بمعنى أن الجانب الأكبر من ابتكارات المنفذين لا يخضع أبدا للتقييم والتحليل، وغير متاح لأغراض التعلم المشترك وتبادل الدروس المستفادة. إننا بذلك نضيع على أنفسنا فرص نشر الممارسات الناجحة. لقد حان الوقت لوضع نهاية لإهدار المعرفة والدراية الإنمائية، وضمان أن بمقدور الفقراء في كل مكان الوصول إلى جميع الممارسات والحلول المبتكرة التي قد تساعدهم في تحسين أحوالهم المعيشية.

وأود أن ألقي الضوء على أربع سمات لتحقيق النتائج لما لها من أهمية بصفة خاصة لكيفية عملنا نحو بناء علم تحقيق النتائج والاستفادة من كامل إمكاناته وطاقاته.

أولا، يتعلق تحقيق النتائج بحل المشكلات. وهو فرع عملي من المعرفة التي تبحث عن السبل الأكثر نجاعة وفاعلية لتحقيق غاية محددة.

ومن بين النتائج المهمة أن تحقيق النتائج هو عملية شديدة الحساسية للأوضاع الخاصة بكل بلد. إذ يتم تحديد الحلول وفقا للاحتياجات وفرص الوقت المحدد والمكان.

ولعل هذا هو السبب في أن مجموعة البنك الدولي ستعمل مع المُنفذين القطريين والمجتمعات المحلية على بناء قاعدة من الأساس لمعارف تحقيق النتائج ثم تطويرها. وفي هذا المضمار، فإن حضور البنك المستمر على أرض الواقع في أكثر من 120 بلدا سيكون عاملا أساسيا. وسوف يساند البنكُ الدولي البلدان في إنشاء مراكز معرفية محلية معنية تتعلق بتحقيق النتائج وتركز على المشكلات المحلية؛ وسوف نربط هذه المنتديات القطرية بموارد إقليمية ودولية. ويمكن أن تأخذ هذه المراكز أشكالا متباينة وتؤدي عملياتها بطرق مختلفة. والغرض المقصود منها هو مساعدة البلدان في التعلم بانتظام.

إن الاعتماد على السياق في تحقيق النتائج يعني أيضا أن البرامج كثيرا ما تعطي نتائج مخيبة للآمال بسبب عوامل ظرفية خارجة عن السيطرة المباشرة من جانب المنفذين. ومن أمثلة ذلك الافتقار إلى مساندة سياسية رفيعة المستوى للبرنامج؛ وعدم كفاية التمويل؛ وضعف القدرات الإدارية القُطرية. وتتجسد إحدى مهام علم تحقيق النتائج في تحديد الإستراتيجيات التي أدت في بعض الحالات إلى تمكين المنفذين من التخفيف الجزئي لهذه القيود الخارجية، أو الحد على الأقل من تأثيرها على أداء البرامج.

ولا يعني التركيز على حل المشاكل المحلية أن من غير الممكن تجميع المعارف الخاصة بسياقات وظروف مختلفة في قاعدة بيانات عالمية من التجارب والشواهد. فثمة حلقة حميدة إيجابية بين ما هو محلي وما هو عالمي، يمكن في إطارها تطويع المعرفة ذات الصلة بسياق محدد في سياقات أخرى. ويتمثل السبيل إلى ذلك في إجراء تقييم دقيق لهذه المعرفة، حتى يتم تحويل المعرفة المحلية إلى شواهد وأدلة متاحة للآخرين. ولمجموعة البنك الدولي دور حاسم الأهمية يمكن أن تلعبه كوسيط في تبادل المعرفة: أولا، عن طريق دعم الابتكارات المحلية على صعيد تحقيق النتائج، ثم ضمان خضوع النتائج المحلية للتقييم والتجميع كشواهد وأدلة متاحة عالميا. ومن بين الأمثلة على ذلك مساندة البنك لجهود جمع الشواهد المتعلقة ببرامج التحويلات النقدية المشروطة ونشرها. فمنذ أن شرعت البرازيل والمكسيك في تطبيق التحويلات النقدية لأول مرة في أواخر تسعينيات القرن العشرين، سهل البنك الدولي أكثر من 200 عملية لتبادل المعرفة فيما بين بلدان الجنوب ساعدت البلدان على أن تتعلم من بعضها بعضا أفضل سبل تطبيق هذه البرامج.

ثانيا، يهتم تحقيق النتائج بالأنظمة المعقدة. ويتعلق تحقيق النتائج في عملية التنمية ببلوغ الأهداف الاجتماعية. فالمجتمعات تتكون من أنظمة متداخلة. ولتحقيق أي هدف اجتماعي، يتعين علينا ضمان مشاركة المنظومات المتعددة الطبيعية منها والتي من صنع الإنسان حيث يعزز بعضها بعضا.

يواجه الكثير من البلدان منخفضة الدخل قيودا معيقة للقدرات علاوة على ضعف أنظمتها. ولكن بناء وإدارة الأنظمة المعقدة هو مجال تفوق وتميز مجموعة البنك الدولي. فعلى مدى أكثر من 60 عاما، عكفنا على مساعدة البلدان في شتى أنحاء العالم على تصميم وتشغيل أنظمة تحقيق الأهداف الاجتماعية. ويمكننا تحليل نظام تحقيق النتائج بأكمله وتحديد الفجوات في القدرات والاختناقات، وتحديد نقاط الإجراءات التدخلية. وفي سياق عملنا مع البلدان لبناء علم تحقيق النتائج، سنقوم بمعالجة هذه القضايا، والاستفادة من معارفنا ودرايتنا بالأنظمة القائمة وتطبيقها بطرق جديدة.

وللتصدي لتعقيدات تحديات تحقيق النتائج، يجب أن يكون علم تحقيق النتائج المستقبلي متعدد التخصصات من البداية. وهذه هي نقطتي الثالثة. فالتعلم في ميدان تحقيق النتائج يعتمد على العلوم الطبيعية، والعلوم الاجتماعية، والهندسة والرياضيات التطبيقية؛ وتخصصات الأعمال، كما يعتمد على العلوم الإنسانية مثل التاريخ والأخلاقيات.

عندما قام البروفيسور مايكل بورتر معي ببناء المشروع العالمي لتقديم الخدمات الصحية في جامعة هارفارد، قمنا بدراسة تحديات نظم الرعاية الصحية. ووجدنا أن أفضل نهج للحصول على قراءة عميقة للأنظمة الصحية هو إرسال فرق بحوث متعددة التخصصات ضمت الأطباء وأخصائيي الصحة العامة وأخصائيي علم الإنسان (الأنثروبولوجيا) والخبراء في الإدارة والمؤرخين والصحفيين والمتخصصين في علم الأخلاق. وساعدنا تفريغ البيانات في أشكال مثلثات مختلفة على اكتشاف العوامل الدافعة للنجاح أو الفشل في البرامج التي قمنا بتحليلها.

وتتمثل إحدى نقاط القوة المميزة لمجموعة البنك الدولي في قدرتها على الجمع بين عمق المعرفة في مجالات التنمية الأساسية من جهة، وبين اتساع التخصصات المتعددة من جهة أخرى. ففي مقدورنا تعبئة الخبرات التخصصية داخل البنك في نطاق عريض من التخصصات. ونستطيع من خلال شبكاتنا وقدرتنا على جمع مختلف الأطراف ربط البلدان المتعاملة معنا بطائفة أوسع نطاقا من الخبرات التخصصية الدولية غير المندرجة ضمن مهام مؤسستنا.

رابعا، تتسم المعرفة المتعلقة بتحقيق النتائج بالتفاعل والتطور. فهي تختلف عما اعتدنا عليه من التخصصات الأكثر اتجاها إلى القياسات الكمية والمجردة والأقل اعتمادا على السياق.

نظرا لتغير الحلول الخاصة بتحقيق النتائج تبعا للسياق، تتجدد المعرفة في هذا الصدد باستمرار من خلال الحوار فيما بين الممارسين والأطراف صاحبة المصلحة المباشرة. إذ تبرز مبادئ تحقيق النتائج في إطار التعاون الوثيق والتواصل لحل مشكلات الناس والمؤسسات معا.

والمعرفة المتعلقة بتحقيق النتائج هي معرفة "اجتماعية" على النحو الذي لم تكن عليه أبدا الأشكال التقليدية للمعرفة العلمية.

لنأخذ مثالا يوضح معنى ذلك في الواقع العملي. في فترة الثمانينيات من القرن الماضي، توقفت جهود تحسين معدلات بقاء الأطفال على قيد الحياة في البلدان الفقيرة. وتوفى ملايين الأطفال في كل سنة بسبب أمراض كان يمكن الوقاية منها أو علاجها بتقنيات بسيطة رخيصة الثمن تشمل التحصين. ولكن توفير هذه الإجراءات التدخلية البسيطة توقف.

وأدركت الوكالات الرائدة، بالأخص منظمة الصحة العالمية ومنظمة اليونيسف، أنها في حاجة إلى تغيير هائل في إستراتيجيتها. وتمثل الحل في إنشاء فريق عمل يضم مُنفذين من ذوي الحنكة والخبرة ومقبولة صلاحياتهم من قبل جميع الوكالات. كان من بينهم قامات مثل بل فيوجي، وهو أحد الأساتذة الذين تتلمذت على يديهم، الذي قاد قطاعات رئيسية من حملة منظمة الصحة العالمية التاريخية لاستئصال شأفة الجدري. وسُميت المجموعة الجديدة فريق العمل المعني ببقاء الطفل وتنميته. بل كان أساسا بمثابة ورشة عمل لتحقيق النتائج. وكان الكثير من اجتماعاته عبارة عن جلسات مكثفة لحل المشكلات. قام المشاركون بتحديد مواطن الاختناقات التي كانت تعيق التقدم في تلك البلدان واستخدموا خبراتهم الجماعية في إيجاد الحلول اللازمة.

قام فريق العمل هذا بتغيير التاريخ. ففي غضون ستة أعوام فقط من عام 1984 إلى عام 1990، ارتفعت تغطية تحصين الأطفال في البلدان النامية أربعة أمثال من 20 إلى 80 في المائة طبقا لبعض التقديرات. فماذا كان السر يا ترى؟ كانت التقنيات المستخدمة معروفة منذ أمد طويل. وكانت الحلقة الناقصة هي غياب إطار للتعلم المشترك واتخاذ القرار بين كبار المُنفذين. وكان المفتاح هو التفاعل في حل المشكلة، بتركيز دقيق على تحقيق النتائج. هذه هي أنواع النماذج التي نتطلع إليها.

تتمثل إحدى النتائج للطبيعة التفاعلية للمعرفة في ميدان تحقيق النتائج في أن جودة معرفتنا تتوقف على شمولية الحوار والنقاش. فإقصاء البلدان المساهمة بعيدا عن المناقشة يحرمنا من بيانات غاية في الأهمية. وبهذه الطريقة، فإنه إذا لم يتم سماع صوت المجتمعات المحلية الشعبية، سيكون فهمنا لعمليات تحقيق النتائج مشوها ومنقوصا. وفي العمل في هذا الصدد، سوف تعزز مجموعة البنك الدولي والبلدان الشريكة مشاركة المجتمعات المنتفعة في جميع جوانب تصميم البرامج وتنفيذها ورصدها ومتابعتها وتقييمها.

اسمحوا لي الآن أن أصف ثلاث خطوات عملية ستتخذها مجموعة البنك الدولي لتقوية التعاون والتضافر مع البلدان وإرساء الأساس لعلم تحقيق النتائج.

أولا، ستقوم مجموعة البنك الدولي بمساندة موجة أولية من ثلاثة بلدان يتم اختيارها ذاتيا لإنشاء مراكز وطنية معنية بالمعرفة من أجل تحقيق النتائج الإنمائية. وستقوم هذه المراكز بالتنسيق بين الموارد البشرية والموارد للتصدي للمشكلات الوطنية ذات الأولوية المتعلقة بتحقيق النتائج ونشر المعرفة. وتكون البلدان مراكزها وفقا لأجنداتها الوطنية. وفي معظم الحالات، سيكون مقر هذه المراكز داخل مؤسسات عامة أو خاصة قائمة. وقد يكون بعضها "إلكترونيا" بصورة كاملة. وبناء على طلب من البلدان، يقوم البنك بتقديم تمويل لإنشاء المراكز، ومساعدات فنية، والدعم اللازم لتبادل المعرفة ونشرها.

يسرني أن أعلن أن وزير مالية جنوب أفريقيا برافن غوردهان أكد عزم بلاده على أن تكون صاحبة التجربة الأولى في هذا الصدد. وعندما قمت بزيارة جنوب أفريقيا الشهر الماضي، قال الرئيس زوما والوزير غوردهان وقادة آخرون بوضوح إن تحسين تحقيق النتائج في البنية التحتية الأساسية والقطاعات الاجتماعية يشكل إحدى أعلى أولوياتهم الوطنية. فتحقيق النتائج هو مفتاح جنوب أفريقيا لبلوغ هدف الرخاء الشامل للجميع، وأن الحكومة قد عقدت العزم على إجراء ما يلزم لإنجاز ذلك. وتتطلع مجموعة البنك الدولي إلى العمل مع جنوب أفريقيا في معالجة هذا التحدي التاريخي. ونحن نشجع البلدان الأخرى المهتمة بالأمر بالتواصل معنا.

ثانيا، سوف نعيد التركيز على عمل البنك المعني بقياس النتائج من أجل تقديم مساندة أفضل للتقدم في تحقيق النتائج. وعلى وجه التحديد، فإن مؤشرات النواتج ليست كافية للوقوف على ما إذا كان تحقيق النتائج يسير في الطريق الصحيح. ويتعين علينا قياس النتائج. فقياس النتائج لا يتعلق بحجم الطرق الريفية التي تم تعبيدها، ولكن بما إذا كانت هذه الطرق تساعد في الحد من الفقر؛ وليس عدد الأطفال الذين يذهبون إلى المدارس، لكن ما إذا كانوا يتعلمون فيها. وقد اتخذ البنك في السنوات الأخيرة خطوات لتضمين المزيد من مقاييس النواتج في جمعنا لبيانات المشروع. ونحن ملتزمون بتوسيع نطاق هذا النهج. وسيستثمر البنك الدولي في أدوات وإستراتيجيات لجمع بيانات النواتج المتصلة بمشاريعه والتي يمكن أن تستنير بها البلدان في قراراتها لتحسين النتائج المتحققة.

ثالثا، سوف نستخدم مناهج وأدوات مبتكرة للحصول على المعرفة الضمنية لدى المنفذين الرئيسيين وتعليم المهارات في ميدان تحقيق النتائج. وسنطبق مجموعة متنوعة من الإستراتيجيات. وتتمثل ثلاثة من هذه المناهج في التعلم المستند إلى الحالات؛ و"حلقات التدريب العلاجية"؛ والالتزام بالتعلم من الفشل.

هنالك أداة مؤكدة الفعالية لتعليم الممارسين الأنظمة المعقدة وهي طريقة دراسة الحالة المستخدمة في الكثير من كليات الأعمال والهندسة والعلوم الصحية. تستخدم طريقة دراسة الحالة نموذجا وصفيا مفصلا يتفادى الحد من المواقف المعقدة وصولا إلى خطط وبرامج مبسطة. وقد وجدنا في هارفارد أن طريقة دراسة الحالة فعالة للغاية في دراسة كيفية اطلاع متخذي القرارات الصحية العالمية، مثلا، على الأنظمة المعقدة. وسوف نقوم في مجموعة البنك الدولي بإنشاء مكتبة لدراسات حالات تحقيق النتائج واستخدامها كمورد لتدريب موظفي البنك والمنفذين القطريين الراغبين في الاستفادة من هذه الفرصة. وسندعو شركاءنا من جميع أنحاء العالم إلى الإسهام فيما نأمل أن تكون مكتبة سريعة التطور لدراسات الحالات.

سوف نقوم أيضا بإنشاء برنامج تدريبي لبناء الجيل التالي من المنفذين الرئيسيين داخل مجموعة البنك الدولي. وسيقوم هذا البرنامج بتكليف المهنيين الشباب الواعدين بالعمل مع خبراء التنفيذ المتمرسين. وسينقل المنفذون الرئيسيون ما لديهم من دراية من خلال العمل التعاوني لمعالجة مشكلات حقيقية لمتعاملين معنا.

يعتبر النهج الثالث للتعلم مهما بالنسبة لي بصفة خاصة.

كانت المؤسسات الإنمائية في السابق تعزف عن الاعتراف بمواطن الفشل وتمتنع عن تحليلها ونشرها علانية. ولكن ذلك بالضبط هو ما لن نفعله في مجموعة البنك الدولي.

إن السياسات والمشاريع التي تضل الطريق تحمل في ثناياها دروسا قيمة. ولكن المؤسسات غالبا ما تكون حذرة عند إعادة النظر لتعلم هذه الدروس. كيف يمكننا تفادي تكرار الأخطار السابقة ونحن لا نتحدث عن تلك الأخطاء في العلن ونقوم بتشخيص الخطأ وتبادل النتائج والاستنتاجات التي خلُصنا إليها حتى يمكن للآخرين تفادي الوقوع في الفخ نفسه؟

أريد أن تكون مجموعة البنك الدولي قدوة حسنة للأوساط المعنية بالتنمية. ومرة أخرى أقول إننا سوف نبني على سوابق واعدة ومبشرة بالخير. فالكثير من موظفي البنك شاركوا فعليا في مناقشات تسمى "حلقات مواطن الفشل" التي تبحث في أسباب أن مشاريع محددة كانت دون التوقعات. أود أن نتوسع في هذه الأحداث ونجعلها أكثر انتظاما وننشر ما تسفر عنه من نتائج.

سوف أبدأ في تولي رئاسة هذه الحلقات شخصيا. ومن المقرر عقد الحلقة الأولى منها في أوائل ديسمبر/كانون الأول. ولن تنحي هذه الجلسات باللائمة على الموظفين، بل إنها سوف تسمح لنا، بدلا من ذلك، بالفهم الجماعي للعوامل التي تسببت في أن تسفر النوايا الطيبة عن إعطاء نتائج أقل من مُرضية. وفي المستقبل، سنقوم بتوسيع نطاق المشاركة في هذه التمارين لتشمل المجتمعات المحلية المتأثرة ونقادا من الخارج، وسوف ننشر محاضر الجلسات والاستنتاجات.

أود في الختام أن أعود إلى جوهر عمل البنك الدولي: أي علاقتنا مع البلدان المتعاملة معنا ومع الفقراء. أعتقد أن عملنا معا لبناء علم تحقيق النتائج سوف يسهم في إحداث تطور جوهري في هذه العلاقة.

لقد تحدثت عن الطبيعة التعاونية والتفاعلية للتعلم من تحقيق النتائج. ومنذ بعض الوقت حتى الآن والبنك والمتعاملون معه ينتقلون من علاقة تقليدية بين المُقرض والمقترض نحو شراكة حقيقية في التنفيذ والتعلم حيث نربط مهاراتنا لمتابعة العمل المستند إلى الشواهد والقرائن حول الأهداف المشتركة.

وعلم تحقيق النتائج هو قوة تحفيزية من شأنها تسريع حدوث هذا التحول. وبالإضافة إلى تقديم الموارد التمويلية والمعرفة، ستكون مجموعة البنك الدولي مؤسسة تعنى بالحلول والممارسات المبتكرة وبالتعلم، وذلك بالاشتراك مع البلدان المتعاملة معها.

وفي الوقت نفسه، سيقدم البنك خدماته لشركائه عن طريق القيام بشيء لا يستطيع أي منهم فعله بمعزل عن الآخرين، ألا وهو: إنتاج سلع النفع العام العالمية المرتبطة بالمعرفة التي تساند عمليات التعلم المشترك على المستويات العالمية والإقليمية والوطنية ودون الوطنية.

لقد ناقشت علم تحقيق النتائج مع زعماء سياسيين من مختلف أنحاء العالم. وتمثل رد فعلهم في أغلب الأحوال في الشعور بالراحة لأن الشركاء العالميين أخيرا يدركون حقيقة ما يحتاجون إليه. فالبلدان تسعى جاهدة لمواجهة هذه التحديات منذ سنوات وتعرف أن الأخطار مرتفعة.

وتطلعا إلى ما يتجاوز الاحتمالات الاقتصادية المجهولة اليوم، مازال الكثير من القادة في الحكومات والقطاع الخاص والمجتمع المدني ملتزمون بتحقيق أهداف جسورة للحد من الفقر وبناء الرخاء. وهم محقّون في التمسك بأهدافهم الطموحة. والبلدان على حق في رؤية أن تحقيق النتائج سيوضح غالبا الفرق بين الركود والنمو.

معا سوف نفتح فصلا جديدا في التنمية: عهدٌ جديد نواصل فيه تحسين قدرتنا على الوفاء بوعودنا للناس، ولاسيما الفئات الأشد فقرا.

شكراً جزيلاً لكم.

 

Api
Api

أهلا بك